كرم جبر

السبق الصحفى الكاذب.. انتحار مهنى!

الثلاثاء، 11 يوليو 2017 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أستاذى الذى تعلمت منه فتحى غانم، هو الذى قال لى: «السبق الصحفى الكاذب انتحار مهنى»، ولا أنسى توجيهاته حتى الآن، حين كلفنى بالذهاب إلى أسيوط، وكتابة تقارير صحفية عن الحرب الدائرة فى ذلك الوقت بين الأمن والجماعة الإسلامية، ويشدد على أنه يريد أن يفهم حقيقة الأوضاع، فى مسرحها وعلى أرض الواقع، موثقة بشهادات من كل الأطراف، ويطلب ألا أتدخل بقناعاتى الشخصية فى توجيه الأحداث، وألا يكون لى رأى إلا فى نهاية سلسلة التحقيقات، وأن يكون الرأى منفصلا ومحددا دون خلط بسياق الموضوعات٠
 
وباعتبار فتحى غانم روائيا عظيما وصاحب «زينب والعرش» و«الأفيال»، نصحنى بأن أتعلم فن كتابة السيناريو، فقد يكون مفيدا فى بعض الموضوعات، «شخصنة» الأحداث، فطلقات الرصاص لا تخرج وحدها، ووراءها أصابع وشخوص وعقول ومنظومة كبيرة.
 
كان ذلك سنة 1986 وذهبت إلى أسيوط محملا بتوجيهات فتحى غانم، حريصا على مقابلة كل الأطراف، وكان أولهم الدكتور محمد حبيب، نائب المرشد فى ذلك الوقت، أمد الله فى عمره، ومازلت أتذكر حتى الآن المكان الذى التقيته فيه، مبنى نادى أعضاء هيئة التدريس، فيلا يمين الشارع بعد الخزان، وكان أستاذا بكلية العلوم ورئيسا للنادى، وفتحت التسجيل وأخبرنى بعد النشر أننى كنت ملتزما بكل ما قاله.
 
الجانب الشاق كان فى مقابلة أعضاء الجماعة الإسلامية، الذين احتلوا الجامعة وعطلوا الدراسة وأجلوا الامتحانات، ردا على قيام مخبر شرطة بإطلاق عيار نارى على أحد الطلاب، إثر نزاع نشب بينهما، بسبب قيام الطالب بنزع أفيش فيلم سينمائى، معلق على الحائط، وبعد الحادث دخل الطالب فى غيبوبة وتأزمت الأمور، وذهبت لهم فى مقرهم بمسجد الإيمان فى منطقة جولتا، وكان الشارع مظلما تماما، والطلبة أضاءته بالشموع، وقبلوا وساطة الدكتور حبيب، الذى طلب منهم قبول مقابلتى.
 
التسجيل كان سلاح المصداقية، وتحدثت معهم، بعد أن صلينا العشاء، أكثر من ساعتين، وفى اليوم التالى تجولت فى المناطق القريبة من الأحداث، وقابلت الناس ورصدت الوقائع، وعدت إلى القاهرة أبحث عن سيناريو، أستفيد من منهجه فى الكتابة، وأثمر المجهود الشاق عن تحقيق موثق بعنوان «أسيوط فى ذمة الجماعة الإسلامية»، وبعده سلسلة تحقيقات، وأول من هنأنى عليه أستاذى المرحوم فتحى غانم.
 
كنا أسعد حظا بتعلم أصول المهنة من «الأسطوات» الكبار، وحين دخلت روز اليوسف فى بداية الثمانينيات، كان الدور الخامس بمبناها شارع قصر العينى، ناديا مزدحما بعظماء الكتاب، الغرفة المواجهة للأسانسير أحمد حمروش، وفى غرف الممر الدائرى يمين، فايزة سعد وجمعة فرحات، وبعدها ناصر حسين، وعبدالفتاح رزق، والشاب طارق الشناوى، ثم صالة التحرير وبعدها غرف عاصم حنفى، ومحمود السعدنى، وفتحى غانم، وصلاح حافظ، ثم عبدالله إمام ومحمود المراغى، وعبدالستار الطويلة ومحمد ذهنى، وأسطى رسم الماكيتات عدلى فهيم.
 
الجيل الحالى من الصحفيين مظلوم تماما، بعضهم لم تتح له فرصة الاحتكاك بالكبار، فلم يشربوا المهنة من أصولها، وبعضهم أخذته العزة بالوهم، فتخيل أنه الأقدر والأعظم، وأن صعوده لن يكون إلا بإزاحة الكبار من طريقة، وألمس فى بعض زملائى الشباب طموحا جارفا لاستعادة الأصول، واسترداد الزمن الجميل، بتقاليد متطورة تحافظ على الثوابت، وتمنع كل من يعرقل صعودهم للمستقبل.
 
المحصلة أن الصحافة وفى ركابها الإعلام، تحتاج برامج طموحة للعودة إلى المهنية والمصداقية، والتحرر من أسر فيس بوك والأخبار الكاذبة، وتسمع الآن أوصافا تطلق على بعض الصحفيين، مثل الاشتراكيين الثوريين وشباب الميدان، وأنهم يغلبون ما تعلموه فى التظاهرات، على قواعد المهنة وأهمها مصداقية الكلمة، فتخرج بعض الموضوعات أشبه بالبلاغات الكيدية، التى انفجرت ماسورتها، وألقت اتهامات كثيرة ثبت عدم صحتها، وتؤدى إلى التسرع والنشر الكاذب، خصوصا مع عدم وجود قواعد قانونية أو نقابية تحاسب المخطئ وترد حق الضحية.
 
«من خارج الصندوق».. عبارة أكرهها جدا!
فماذا يحدث إذا سرقوا الصندوق، وأين الصندوق أصلا الذى نبحث عن حلول خارجه، وما العمل إذا كان الصندوق فارغا أو فيه كراكيب؟ وهل نوظف هذه العبارة كما اخترعوها فى الغرب فى مكانها الصحيح، أم هى مجرد جملة استعراضية، يزين بها خبراء الفضائيات كلامهم، ثم تكتشف أنها سوار من صفيح؟
منقول : شارلز هولاند دويل «مفوض الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية»، قال: كل شىء كان من الممكن اختراعه قد تم اختراعه، وهذه المقولة بالضبط ليست أكثر من التفكير داخل الصندوق، وستتعجب أكثر عندما تعلم أنه قالها عام 1899، عندها كان الناس لايزالوا يستخدمون الخيل والقطارات البخارية للتنقل، وقبل اختراع السيارات والطائرات بأمد بعيد.
 
 فما الذى جعلنا نستيقظ مؤخرا، ونسرف فى تعميم عبارة استخدمها من كانوا يركبون الخيل فى التنقل، ويزداد الأمر سوءًا، عندما ترى من يزعم أنه «خبير خارج الصندوق»، ثم يتحدث فى موضوعات، لم يدرسها ولا يعلمها ولا يفهمها، وبالذات فى القضايا الاقتصادية والأمنية الشائكة، التى تستلزم مواصفات قياسية فيمن يتحدث فيها، أهمها التزاوج المتراكم بين الكلام النظرى والواقع العملى، فليس للمشاكل الصعبة موديل واحد تصبها فيه، وليست المقترحات «بنطال استرتش»، تحشر بداخله النحيفة وأيضا شجرة الجميز.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة