قضاة الدنيا على منصات العدل.. قراءة فى 15 نظاما عالميا على خلفية أزمة "السلطة القضائية" واعتراض الهيئات المصرية.. رؤساء أمريكا وتركيا وروسيا يعينون قضاتها.. والكلمة للبرلمان فى إنجلترا واليابان والصين

الأربعاء، 12 أبريل 2017 10:59 ص
قضاة الدنيا على منصات العدل.. قراءة فى 15 نظاما عالميا على خلفية أزمة "السلطة القضائية" واعتراض الهيئات المصرية.. رؤساء أمريكا وتركيا وروسيا يعينون قضاتها.. والكلمة للبرلمان فى إنجلترا واليابان والصين محكمة النقض ومجلس النواب
حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

- نستعرض 15 نظاما قضائيا عالميا من أوروبا وآسيا والمنطقة العربية يتوزع فيها اختيار القضاة بين الرئيس والبرلمان


 - خلافات مشروع تعديل قانون "السلطة القضائية" تفتح ملف العلاقة بين سلطات الدولة

 

- القضاة يرفضون المشروع معتبرين الرئيس جزءا من السلطة التنفيذية ويطلبون لقاءه بصفته "حكما بين السلطات"

- مواد الدستور المرفوعة فى وجه مشروع القانون لا تتحدث عن الأقدمية ولا تغل يد البرلمان

 

- قضاة المحكمة العليا فى الولايات المتحدة يعينون من جانب الرئيس وفى إنجلترا واليابان يختارهم البرلمان

- هل يحمل موقف الهيئات القضائية رقابة دستورية مسبقة على مشروعات القوانين بالمخالفة للدستور؟

 

- قضاة المحكمة الاتحادية العليا فى روسيا يعينون بقرار من الرئيس بعد اقتراح من المجلس الاتحادى "البرلمان"

- فى تركيا يتمتع الرئيس بصلاحيات واسعة فى اختيار القضاة تصل لتعيين 14 من أصل 17 بالمحكمة الدستورية

 

 
لا يمكن الإقرار بأن دولة مستقرة يمكن أن تنهض دون أن تحقق التوافق  بين مؤسساتها وسلطاتها، لهذا لا يمكن الانطلاق من فرضية أن خلافا بين سلطات الدولة ومؤسساتها يمكن أن يكون  طبيعيا أوغير معطل للدولة نفسها، فى كيانها وصلب صيغتها، لا كأفراد وتجمعات ودوائر حكم، الدولة كهوية وبناء وعلاقات قوى مجتمعية وانحيازات مركزية ومصالح عليا، فالأساس فى أى تنظيم سياسى ناجح لدولة من الدول أن تكون العلاقة بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية علاقة صحية ووطيدة، وفى مصر يمكن اختزال الأمر فى السلطتين التشريعية والقضائية، باعتبار أن السلطة التنفيذية أصبحت بصورة من الصور فرعا من السلطة التشريعية، وفق ما أقره دستور مصر السارى منذ 2014، بمنح البرلمان سلطات واسعة فى اختيار الحكومة وتكليفها ومراقبتها وحسابها، ولا ينتقص من هذا تمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات إجرائية كثيرة، إذ لا يمكن فى التصورات القانونية العميقة اعتباره جزءا من السلطة التنفيذية، وإن اضطلع بكثير من مهامها، فالدستور يحتفظ له بمساحة خاصة ومميزة بدرجة واضحة عن التنفيذ، ويقر بوضعه كحكم بين السلطات، ولا يمكن تخيل أن المشرع الدستورى لم يكن يعى أنه لا يصح لجزء من السلطة التنفيذية أن يكون حكما بينها وبين السلطتين الأخريين، والأوقع أنه أخرج منصب الرئيس بما له من طبيعة سياسية ووطنية خارج دائرة السلطة التنفيذية، وعلق مسؤوليتها فى عنق البرلمان، فأصبح القضاء ومجلس النواب ساقى مصر اللتين لا يمكن أن تسير الدولة إلا بهما، وإن التفّت إحداهما على الأخرى، فالرئيس حكم وفاصل بينهما، هكذا اتجهت إرادة المشرع الدستورى، وهكذا أقر الشعب الأمر فى استفتاء عام.
 
الإبحار فى تاريخ الدولة المصرية وفق صيغتها الحديثة، صيغة ما بعد يوليو 1952، لن يكشف عن صراعات وصدامات بين القلبين الصلبين للدولة، مؤسستى القضاء والبرلمان، رغم تبدل الأحوال وتعدد الصيغ الدستورية والقانونية التى حكمت هذه العلاقة خلال أكثر من ستة عقود، وتغير هياكل الأنظمة الحاكمة طوال هذه السنوات، كانت الركائز الأساسية للعلاقة دائما تستند إلى الحقوق المتساوية والمتبادلة، دون افتئات من مؤسسة على الأخرى، هكذا اضطلع البرلمان بحقه التشريعى المستمد من الدستور وإرادة الشعب، فأسس معمار مصر القانونى متناولا كل الأمور وطارقا كل أبواب التشريع، واضطلع القضاء بحقه فى إنزال القوانين منازل التطبيق، ففصل فى كل النزاعات القائمة بين الأفراد والمؤسسات على اختلاف اتجاهاتهم وتوصيفاتهم، حتى الفصل فى صحة عضوية أعضاء البرلمان أنفسهم، والإشراف على أعمال الانتخابات العامة، وفى القلب منها انتخاب نواب الشعب، ولم ير قاض من القضاة أن إعمال البرلمان لسلطاته فى التشريع ينتقص من عصمة منصة العدالة، حتى حينما كان يتصدى لقوانين الهيئات القضائية، كما لم ير نائب من النواب أن حكما قضائيا من محكمة النقض بإسقاط عضوية زميل أو إلغاء انتخابات دائرة، يهز مركز البرلمان المتشكل وفق إرادة شعبية مباشرة، وعلى هذه الصورة سارت الأمور بشكل صحى لفترات طويلة، ولأن هذا المسلك هو الأصل وطبيعة الأمور، فلم يستدع الأمر نقاشا فى هذه الصيغة أو اقترابا منها طوال العقود الماضية، فى معالجات قانونية أو سياسية أو إعلامية واسعة، فغاب هذا النقاش عن المجال العام، حتى تم استدعاؤه مؤخرا بقوة وحدّة وعلى عجالة، مع إعمال أحد أعضاء مجلس النواب لحقه الدستورى والقانونى فى اقتراح مشروع قانون، ورفض الهيئات القضائية للاقتراح، ما خلق أزمة واسعة بين المؤسستين التشريعية والقضائية، أزمة مفاجئة وغير معهودة وتحتاج للتوقف والبحث، وقبل هذا تحتاج للفحص والشرح والفهم، ومعرفة أسبابها ومنطلقاتها وحدود حق كل طرف فيها، والأهم حدود دستور مصر المصان بأصوات ملايين المقرين له فى استفتاء ملزم للجميع، وأولهم مؤسسات الدولة.
 
 

أزمة البرلمان والقضاء وغياب الدستور

فى 25 ديسمبر 2016 تقدم النائب أحمد حلمى الشريف، وكيل لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب، بمشروع قانون لتعديل الفقرة الثانية من المادة 44 من مشروع قانون السلطة القضائية، وتنص على أن: "يعين رئيس محكمة النقض من بين نواب الرئيس وبعد أخذ رأى مجلس القضاء الأعلى"، لتصبح صيغتها وفق التعديل المقترح: "يستبدل بنص الفقرة الثانية من المادة 44 من قانون السلطة القضائية، أن يعين رئيس محكمة النقض بقرار من رئيس الجمهورية من بين 3 من نوابه، يرشحهم مجلس القضاء الأعلى من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المحكمة، لمدة 4 سنوات، أو المدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد، أيهما أٌقرب، ولمرة واحدة طوال مدة عمله، ويجب إبلاغ رئيس الجمهورية بأسماء المرشحين قبل نهاية مدة رئيس المحكمة بستين يوما على الأٌقل، وفى حالة عدم تسمية المرشحين قبل انتهاء الأجل المذكور فى الفقرة السابقة، أو ترشيح عدد يقل عن ثلاثة، أو ترشح من لا تنطبق عليه الضوابط المذكورة فى الفقرة الثانية، يعين رئيس الجمهورية رئيس المحكمة من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المحكمة"، وهو ما واجه معارضة كبيرة من الهيئات القضائية منذ طرحه، وصلت إلى تجاهل خطابات مجلس النواب بإبداء آرائهم فى النص الجديد، وفق الضابط الدستورى فى المادة 185 من الدستور، وتنص فى فقرتها الثانية على أن: "يؤخذ رأى كل جهة وهيئة قضائية فى مشروعات القوانين المنظمة لشؤونها".
 
بدأ الأمر برفض أندية قضاة الهيئات القضائية المختلفة للمشروع المقترح فى 28 ديسمبر، تلت ذلك موجات رفض أخرى من أندية الأقاليم والمجلس الأعلى للنيابة الإدارية وقضايا الدولة ومجلس القضاء الأعلى، فى يناير ومارس الماضيين، وتعلل القضاة فى رفضهم بإهدار المشروع الجديد لقاعدة الأقدمية وكونه يمثل تدخلا فى بنية القضاء واستقلاله، ويخالف المواد 5 و94 و139 و184 و185 من الدستور، بينما كان رد مجلس النواب على الجانب الآخر منحازا لفكرة الحوار، إذ أعاد إرسال مشروع القانون للهيئات القضائية، وطلب موافاته بالرأى، ومع تصاعد الأزمة واستمرار الرفض اضطر لإقرار المشروع من حيث المبدأ، وإرساله إلى مجلس الدولة، الجهة القضائية المنوط بها دستوريا مراجعة مشروعات القوانين قبل الإقرار النهائى لها فى البرلمان، سعيا إلى إنجاز المشروع وعدم تعطيله.
 
الاقتراب العاقل من الملف لا ينبغى أن يحمل انحيازا لطرف من الأطراف، المؤسستان المختلفتان مؤسستان وطنيتان مهمتان، لا يمكن افتراض أن إحداهما تعمل ضد الأخرى، أو ضد صالح الدولة المصرية، ولا يمكن احتمال خلافهما أيضا، ولكن يمكن وضع قدم بعد أخرى، بحذر وعمق، على طريق الأسئلة الشائكة والخلافات الساخنة، فى إطار محاولة جادة لفهم الملف وتفكيك نقاط التعقيد والاشتباك القائمة فيه، وأولها ما يتصل باتهام القضاة للمشروع بالانتقاص من استقلالية القضاء ووضعه تحت يد السلطة التنفيذية، باعتبار منح صلاحية تعيين رؤساء الهيئات القضائية لرئيس الجمهورية، وهى نقطة تحمل داخلها كثيرا من الأسئلة التى ربما تغير الصورة تماما، بطرحها للبحث والدرس ومحاولات الإجابة، فالنظام القضائى المصرى يقوم على التعيين المباشر من السلطة التنفيذية للقضاة، فى بداية السلك القضائى بالنيابة العامة والهيكل القاعدى للهيئات القضائية، ويكون قرار التعيين نافذا بمرسوم من رئيس الجمهورية، ووفق هذه الصيغة فإن الجهاز التنفيذى للدولة ينظم آلية الالتحاق بمؤسسة القضاء، وهو بهذا منشئ الحق، ولم يتحدث أحد من قبل عن كون هذه الطريقة تدخلا فى القضاء أو انتقاصا من استقلاله، كما أن رؤساء الهيئات القضائية يُعيّنون بقرار من رئيس الجمهورية وفق النص القائم بالمادة 44 من قانون السلطة القضائية، الآليات الإجرائية مختلفة فى التعديل عن النص القائم، ولكن سلطة إنفاذ القرار حق مباشر لرئيس الجمهورية، ولا يُعد هذا أيضا انتقاصا من الاستقلالية، والغريب أن القضاة أنفسهم رفعوا مطلبا بلقاء الرئيس لحل الأزمة، إعمالا بالطبع لصفته الدستورية كحكم بين السلطات، ولكنهم فى اعتراضهم على آليات وضوابط اختيار رؤساء الهيئات القضائية فى التعديل الجديد، رفضوا حق رئيس الجمهورية فى إقرار الأمر، إنزالا له إلى منزلة السلطة التنفيذية، وهى رؤية فيها قدر كبير من التعارض، الذى ربما يرتقى للتناقض، من جانب القضاة، والجميع يثق فى نزاهتهم وصدق انحيازهم، ولكن منصة العدل تحتاج لتقديم إجابات أكثر منطقية على الأسئلة الأكثر إلغازا.
 
 

الرقابة الدستورية "لاحقة" يا سيادة القاضى

المواد الدستورية التى طعن أعضاء الهيئات القضائية من خلالها فى مشروع القانون الجديد، 5 و94 و139 و184 و185، تتحدث عن التعددية والفصل بين السلطات، وعن استقلال القضاء وحصانته، وعن موقع رئيس الجمهورية كرئيس للدولة ورئيس للسلطة التنفيذية، وعن استقلال السلطة القضائية وطريقة أداء عملها وتنظيم القانون لها، وقيام كل هيئة قضائية على شؤونها، وهى فى مجملها لا تقدم تصورا حاسما للخلاف القائم، فالفصل بين السلطات لا يعنى بالتأكيد حرمان مجلس النواب من حقه الدستورى فى التشريع، باسم الشعب الذى يصدر القضاء أحكامه باسمه وانحيازا له، وتوصيف رئيس الجمهورية بأنه رئيس السلطة التنفيذية لا يعنى أنه على طرف نقيض أو على الجانب المقابل للسلطتين التشريعية والقضائية، فهو فى الوقت ذاته حكم بين السلطات، ولا يستقيم قانونا أن يتمتع بهذه الصفة إذا كان تنفيذيا فقط، أو بالأساس، وإنما رئاسته للسلطة التنفيذية من قبيل التنظيم الإجرائى لإدارة الكيان العام للدولة، وتحجيم السلطة التنفيذية المتنفذة فى أمور الدولة بكاملها، كى لا تجور على سلطتى التشريع والقضاء، والتاريخ الدستورى للدولة المصرية لم يحمل تعارضا بين الصفتين، إلى جانب إقرار القانون 92 لسنة 2008 لرئاسة رئيس الجمهورية للمجلس الأعلى للهيئات القضائية فى وقت سابق، ما يتكامل مع رئاسته للسلطة التنفيذية، إذ يمد ولايته التنظيمية على مؤسسات الدولة ليتسنى له أن يكون حكما بين السلطات، ما يعنى أن رئاسته للسلطة التنفيذية فى جوهرها صيانة لاستقلال البرلمان والقضاء، وهو ما أكده القضاة أنفسهم بلجؤوهم للرئيس، بينما لم يقدموا أى أساس قانونى داعم لرفضهم للمشروع الجديد على خلفية إهداره لمبدأ الأقدمية، غير المذكور فى الدستور ولا فى قانون السلطة القضائية بالمرة، وهو ما يضعنا فى موقف أكثر إثارة، وقد يحمل أسئلة عن إهدار القانون والدستور لصالح إعلاء العرف الداخلى لمؤسسة ما، لها من القداسة والأهمية الكثير، ولكنها لا تعلو على الدستور، الذى تستمد وجودها وتأثيرها ومجالها الحيوى منه، وتصدر أحكامها باسم الشعب الذى يمثل الضامن الأساسى والمرجع الأعلى لحماية الوثيقة الدستورية المنظمة لأمور الدولة، وهى نفسها التى قالت بشكل صريح "يؤخذ رأى كل جهة وهيئة قضائية فى مشروعات القوانين المنظمة لشؤونها"، ولم تُرتّب إلزاما على المجلس، إذ لم تقل "يؤخذ برأى" وإنما وضعتها فى صيغة الاستطلاع "يؤخذ رأى"، ولم تُرتب إجراء مقابلا لتجاوز هذا الرأى عمليا، فهل تغل الفقرة الثانية من المادة 185 بالدستور يد البرلمان عن التشريع؟ أم أننا إزاء قراءة خاطئة لها من جانب أحد طرفى الصراع؟
 
النقطة الأكثر غرابة فى الأمر، أن ولاية مجلس النواب على القانون ولاية ممتدة لحين إقراره، لا ينازعه فيها أحد، باستثناء الإجراءات التنظيمية الممنوحة للرئيس كحكم بين السلطات، بينما تخرج عن سلطته بدخول القانون حيز النفاذ، لتبدأ الولاية الدستورية المنوطة بالمحكمة الدستورية العليا، وخلال وضع الدستور الأخير للبلاد أثيرت نقطة الرقابة الدستورية السابقة، وحدث فيها خلاف قانونى وفقهى واسع، انتهى إلى منح مجلس الدولة حق مراجعة الصياغة والضبط القانونيين لمشروعات القوانين، دون أن ينتقص هذا الإجراء من مبدأ الولاية اللاحقة للمحكمة الدستورية، بينما تُستخدم مواد الدستور الآن كآلية مسبقة للمصادرة على مشروع قانون فى عهدة مجلس النواب، بأدوات وآليات المحكمة الدستورية، أى أننا إزاء خروج من حالة الرقابة اللاحقة إلى الرقابة المسبقة، بما يصطدم اصداما قويا ومباشرا مع مبدأ الفصل بين السلطات فى جوهره الحقيقى، ومع حق السلطة التشريعية فى وضع القوانين ومباشرتها حتى دخولها حيز النفاذ.
 
 

هل ينتقص التعيين من استقلال القضاء؟

إذا خرجنا من حالة الصراع القائمة بين مجلس النواب والهيئات القضائية، بتفاصيلها وما تثيره من ملاحظات واستفسارات، واتجهنا إلى الجوهر العميق المحرك للأزمة، والمتمثل فى وضع آليات جديدة لاختيار رؤساء الهيئات القضائية، ربما يبدو الخلاف بسيطا وغير مفهوم، كان الأمر فيما مضى، وما هو قائم حتى الآن، يتم عبر اختيار مجالس الهيئات القضائية لأشخاص المرشحين وإرسال أسمائهم لرئيس الجمهورية لإصدار قرارات تعيينهم، وجرى العرف على الانتصار لقاعدة الأقدمية المطلقة، مع ما سجله قانونيون ودستوريون وقضاة أيضا من ملاحظات فنية على هذه القاعدة، بينما يتجه المشروع المقترح إلى إرسال ثلاثة أسماء من بين أقدم سبعة نواب لكل هيئة قضائية، ليختار الرئيس منهم، وفى الحالتين فإن رئيس الهيئة القضائية يأتى بالتعيين من خلال رئيس الجمهورية، كما دخل السلك القضائى فى بدايته معينا من خلال السلطة التنفيذية، والخلاف فى ظاهره يتمثل فى رفض القضاة لإلزامهم بإرسال ثلاثة ترشيحات من أقدم نواب رئيس الهيئة القضائية، بينما كانوا يرسلون اسما واحدا، هو الأقدم وفق العرف السارى، أى أن مشروع القانون المقترح حول العرف إلى قانون، ما يكسبه حضورا إلزاميا مضبوطا بضابط قانونى، بينما منح الرئيس، الحكم بين السلطات، حق الاختيار فى نطاق ضيق، فلم يتركه له على الإطلاق، ولم يلزمه باسم واحد، وربما يحمل الأمر موازنة بين استقلال الهيئات القضائية وإدارتها لشؤونها، وبين حق رئيس الجمهورية فى إنجاز استحقاقات يراها تتصل بالمصلحة العليا للبلاد، المنوط به حمايتها وتحقيقها بنص الدستور.
 
المقطوع به فى الأزمة الراهنة، أن رئيس الجمهورية ما زال ملزما بترشيحات الهيئات القضائية، وما زال الاختيار من داخل الدائرة العليا بكل هيئة، لا استدعاء من الخارج ولا إحلال وتبديل، والأمر مقصور على ثلاثة مرشحين من أقدم النواب، لهم جميعا مواقف قانونية متساوية، وإن تباينت المواقف العرفية التى لا سند قانونى لها، خاصة أن الأقدمية فى هذا المستوى من القيادات القضائية لا تتجاوز شهورا، وتنحصر أحيانا فى أسابيع وربما أيام، وحديث الهيئات القضائية عن القلق من إثارة الشقاق والضغائن بين جموع القضاة نتيجة الخروج من قاعدة الأقدمية المطلقة إلى قاعدة المفاضلة والترشيح، حديث يتجاوز حقيقة أن منصب القاضى فى جوهره يحمل إلزاما قانونيا ونفسيا بتجاوز الشخصى والانتصار للعام، واحترام المؤسسية ومنظومة القانون والإدارة، والتحرك وفق ضوابط تصون الغايات العامة ولا تلتفت للمصالح الخاصة، وفى الحديث شبهة شخصنة وتغليب لنوازع ذاتية، نُجلّ القضاة ونعلو بهم عن الانزلاق فى هذا المسلك أو التفكير تحت تأثيره، ولكن السؤال الأهم أمام هذا المنعطف الخلافى الحاد، وتفاصيل الرفض والاعتراض التى ربما لا تقوم على ساقين وطيدتين، هو هل ينتقص التعيين من استقلال القضاء؟ وبعيدا عن حقيقة أن التعيين هو الأمر القائم حاليا فى السلك القضائى من بدايته حتى أرفع درجاته، بالنظر إلى جوهر إنفاذ تعيين رؤساء الهيئات القضائية، وعدم التوقف عند الأمور الإجرائية والآليات التنظيمية، فالحقيقة أن مسألة التعيين فى جوهرها ليست شرطا مباشرا للانتقاص من الاستقلال، وبينما يعرف العالم ثلاثة طرق لاختيار القضاة، بين التعيين من السلطة التنفيذية، والانتخاب المباشر من المواطنين، والانتخاب عن طريق السلطة القضائية نفسها، تغيب الطريقة الأخيرة بشكل واسع عن الأنظمة القضائية العالمية، وتعتمد بعض دول العالم المتقدم الطريقة الأولى للانتخاب المباشر، وينحاز القطاع الأوسع عالميا، ومنه مصر، لطريقة التعيين من خلال السلطة التنفيذية، فهل كل الأنظمة القضائية التى تأخذ بالتعيين حول العالم تمتلك قضاء منقوص السيادة والاستقلال أم أن فى الأمر كلاما يجب أن يُقال؟
 
النظر فى الأنظمة القضائية العالمية يكشف كثيرا من الحقائق والأمور الجوهرية فى هذا الإطار، وبداية يمكن اختزال المعلومات التفصيلية المتاحة والكثيرة فى هذا الصدد، فى حقيقة أنه يندر أن تجد بلدا أوروبيا واحدا لا يتمتع فيه البرلمان بسلطة مباشرة فى اختيار القضاة وتعيينهم واختيار رؤوس الهيئات القضائية والمحاكم العليا، وفى بلدان أخرى فى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية يُناط هذا الحق برئيس الدولة، وهى الصلاحيات نفسها التى يتمتع بها الرئيس فى النظام التركى، وفى كندا وسويسرا واليابان واستراليا وغيرها، لن تجد بلدا تقريبا لا تمتد ولاية البرلمان أو رئيس الدولة لتشمل اختيار القضاة وإصدار قرارات تكليفهم بمناصبهم.
 
 

اختيار قضاة العالم.. بين البرلمان والرئيس

فى الولايات المتحدة الأمريكية يعين الرئيس قضاة المحكمة العليا الثمانية، ورئيسها، بمشورة وموافقة مجلس الشيوخ الأمريكى، بحسب نص الفقرة الثانية من المادة الأولى بدستور البلاد: "وبمشورة مجلس الشيوخ وموافقته، له أن يعين، سفراء ووزراء مفوضين آخرين وقناصل وقضاة للمحكمة العليا وسائر موظفى الولايات المتحدة الآخرين"، وتتجه ولايات أمريكية عديدة لاعتماد صيغة شبيهة، باختيار القضاة من خلال حكوماتها المحلية، بينما تنحاز برلمانات عديد من الولايات لاختيار القضاة باقتراع مباشر من المواطنين، وهو ما تعارضه نقابة المحامين الأمريكيين، ويعبر قانونيون وسياسيون أمريكيون عن رفضهم له فى مناسبات عديدة وبصور مختلفة، ولكن لم يثر هذا الخلاف أزمة تصل إلى درجة التشكيك فى استقلالية القضاء الأمريكى، حتى مع حديث البعض عن تصويت قضاة المحكمة العليا الذين عينهم الرئيس الأسبق جورج بوش الأب (تولى الحكم بين 1989 و1993) لصالح ابنه "جورج بوش الابن" فى خلافه مع "آل جور" إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2000، رغم تصويت قضاة محكمة ولاية فلوريدا التى شهدت خلافا فى حصر أصوات الناخبين لصالح المنافس آل جور، ما أدى لإبطال قرارها وفوز جورج بوش الابن بالرئاسة.
 
فى كندا يتعين على القاضى المرشح لعضوية المحاكم العليا أن يخضع لاختبار أمام لجنة برلمانية، تذاع وقائعه علانية على المواطنين، لتصدر اللجنة قرارها بشأن اختيار القاضى المذكور، وهو قرار غير ملزم لرئيس الوزراء (أعلى سلطة تنفيذية مباشرة فى البلاد الخاضعة للتاج البريطانى)، أى أن اختيار القضاة مسؤولية مشتركة بدرجة ما بين البرلمان والسلطة التنفيذية فى كندا، أما فى اليابان فيُعيّن قضاة التحكيم فى محاكم الدرجة الأولى ومحكمة النقض من قبل مجلس النواب، بناء على قائمة أسماء مقترحة من محكمة النقض، بينما يُعيّن رئيس محكمة النقض نفسه باختيار وقرار مباشرين من إمبراطور البلاد، وفى المملكة المتحدة "إنجلترا" يتم تعيين القضاة بشكل نظرى من خلال الملكة، ولكن على المستوى العملى فإنهم يُختارون من قبل رئيس مجلس اللوردات، أحد غرفتى البرلمان الإنجليزى، وهو الرئيس الأعلى للقضاء فى البلاد، بينما يُختار رئيس محكمة الاستئناف ومستشارو المحكمة واللوردات المعاونون ورئيس دائرة مجلس الملكة الخاص، بقرار مباشر من رئيس الوزراء.
 
وفى ألمانيا يُنتخب قضاة المحكمة الدستورية الستة عشر بطريقتين، إذ ينتخب البرلمان الألمانى "بوندستاج" نصف عدد الأعضاء، ويُنتخب النصف الآخر من خلال مجالس المقاطعات الاتحادية، وذلك لمدة خدمة قدرها 12 سنة غير قابلة للتجديد، وفى فرنسا يُعيّن مستشارو محكمة النقض والقضاة الأوائل لمحاكم الاستئناف بقرار من رئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من مجلس القضاء الأعلى، بينما يُعيّن قضاة الحكم بقرار جمهورى بناء على ترشيح من وزير العدل، أما فى سويسرا فيتباين نظام اختيار القضاة وتعيينهم من مقاطعة لأخرى، "جنيف" تنتخب قضاتها من خلال برلمان المقاطعة، فى اقتراع كل 6 سنوات، مع إمكانية إعادة انتخابهم مرات أخرى، بينما يُنتخب قضاة المحكمة الفيدرالية العليا فى البلاد من قبل البرلمان الفيدرالى بمدينة "برن".
 
من أوروبا وأمريكا إلى دول المنطقة القريبة جغرافيا وتاريخيا، سنجد أن نظام القضاء فى تركيا حتى 7 سنوات مضت، كان يحتفظ للمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين بصلاحيات شبه مطلقة، إذ يختص بكل أمور القضاة منذ بداية التعيين وحتى التقاعد، كما يختار كل أعضاء المحكمة العليا، و75% من أعضاء مجلس الدولة، ما تسبب فى تواتر الانتقادات والصدامات مع المنظومة القضائية، ودفع السلطات التركية لإجراء تعديل دستورى فى 2010 لإعادة هيكلة السلطة القضائية وصياغة منظومتها، مرره الشعب بأغلبية كبيرة، وشملت التعديلات منح الرئيس حق تعيين 4 أعضاء بالمجلس، إلى جانب عضوية وزير العدل ومستشاره، وفيما يخص المحكمة الدستورية فللرئيس الحق فى تعيين 4 أعضاء بشكل مباشر، و3 من ترشيحات المحكمة العليا، واثنين من ترشيحات مجلس الدولة، وواحد من ترشيحات المحكمة العسكرية العليا، و3 من مؤسسات التعليم العالى، بإجمالى 14 من أصل 17 قاضيا، بينما يختار البرلمان اثنين من بين 3 مرشحين من الجمعية العامة لديوان المحاسبات، وعضوا واحدا من ثلاثة أسماء تطرحها نقابات المحامين.
 
وعلى صعيد آسيا والأقطاب الكبرى الأخرى فى العالم، فإن النظام القضائى فى الصين يستند إلى البرلمان بالدرجة الأكبر، إذ يجرى انتخاب رئيس المحكمة الشعبية العليا من خلال البرلمان الصينى "المجلس الوطنى لنواب الشعب"، فى حين تتولى اللجنة الدائمة للمجلس تعيين نواب رئيس المحكمة وقضاتها وعزلهم أيضا، وهو الأمر نفسه فى كوريا الشمالية، وفى روسيا يتم تعيين قضاة المحكمة العليا بقرار من الرئيس الروسى، بعد النظر فى اقتراحات وترشيحات المجلس الاتحادى "المجلس الأعلى فى البرلمان الروسى"، وهى المحكمة العليا فى روسيا، والدرجة النهائية للتقاضى فى القضايا الإدارية والمدنية والجنائية، وإلى جانب هذا تراقب أعمال المحاكم الأدنى وتشرف عليها وتقدم تفسيرات للقانون.
 
 

كيف يُعيَّن القضاة فى الدول العربية؟

من أوروبا وآسيا للمنطقة العربية، ودولها ذات النظم القضائية الراسخة تحديدا، سنجد أن الدستور والنظام القضائى فى المغرب مثلا يمنحان الملك حق تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا ورئيسها، بينما يرأس بنفسه مجلس القضاء الأعلى، وينوب عنه فيه وزير العدل، ويشاركهما العضوية الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بينما تتألف المحكمة العليا من رئيس وستة قضاة رسميين، وثلاثة قضاة مساعدين، ينتخبهم مجلس النواب، وفى تونس يتكون مجلس القضاء الأعلى من ثلاثة مجالس، القضاء العدلى والقضاء الإدارى والقضاء المالى، بإجمالى 45 عضوا، يعين الرئيس 12 منهم تعيينا مباشرا، وينتخب 33 من خلال القضاة والمحامين والمحاسبين وأساتذة القانون بالجامعات، بينما تتكون المحكمة الإدارية التونسية من 61 عضوا، ويرأسها الرئيس الأول للمحكمة الذى يُعين بقرار مباشر من رئيس الحكومة التونسية.
 
أما فى الجزائر، فينص قانون تشكيل المجلس الأعلى للقضاء على أن يتكون من 19 عضوا، ويرأسه رئيس الجمهورية، ويحوز وزير العدل عضويته بحكم منصبه وصفته الوظيفية، بينما يحق للرئيس تعيين 6 أعضاء من خارج السلك القضائى بقرار مباشر، كما يعين رئيس الجمهورية رئيس مجلس الدولة الجزائرى، الذى يضم 36 عضوا، وفى سوريا يترأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى، وينوب عنه وزير العدل فى رئاسته، ومن حق الأخير إنهاء خدمة أى قاض أو صرفه من العمل.
 
من سابق المعلومات فيما يخص الأنظمة القضائية فى عدد كبير من الدول، من الشرق والغرب، وأغلبها دول راسخة فى الديمقراطية والفصل بين السلطات، يبدو أن الاتجاه الغالب على الأنظمة القضائية العالمية ينحاز لفكرة استقلال القضاء، ولكن مع إخضاعها بدرجة ما لولاية شعبية منضبطة ومراقبة، إما من خلال البرلمان المنتخب شعبيا والممثل لإرادة مواطنى الدولة تمثيلا مباشرا، أو من خلال رئيس الدولة الذى يمثل الإرادة الشعبية أيضا، ويضعه الدستور حكما بين السلطات ومراقبا لعلاقات القوى فى المجتمع وانضباط المنظومة القانونية وهياكل السلطات المختلفة، وبينما يمثل قانون السلطة القضائية القائم، وتحديدا المادة 44 منه وهى سبب الأزمة، اعترافا بموقع الرئيس كمنظم لعلاقات السلطات المختلفة وحكم بينها، لا ينحرف مشروع القانون المقدم بالبرلمان، ويراجعه مجلس الدولة الآن، عن هذا المبدأ، إذ يمنح الرئيس حقا تنظيميا فى أن تمتد ولايته إلى الاختيار من متعدد، بما لا يخل بحق القضاة فى ترتيب أمورهم وتسمية من يتولونها، وهذه صيغة واحدة من صيغ عديدة يعتمدها العالم لاختيار القضاة، بعضها يمنح الرئيس حق الاختيار المطلق المباشر ضمن ترشيحات، وبعضها يلزمه بترشيحات، وبعض ثالث يجعل الاقتراحات مسألة تنظيمية غير ملزمة، بينما يتجه قطاع غير هين لإسناد ولاية الإشراف والاختيار المباشر للقضاة إلى البرلمان وأعضائه، وكلها أمور لا تنتقص من استقلال القضاء، ولم تثر حساسية لدى قضاة دول العالم المختلفة، ولم نسمع طعنا فى استقلال قضاة أمريكا أو إنجلترا أو اليابان أو ألمانيا أو فرنسا أو روسيا أو الصين أو سويسرا، وغيرها من الدول التى استعرضنا أنظمتها وتفاصيل بنيتها القضائية، فهل يصل القضاة والبرلمان إلى مساحة توافق فى المعركة الدائرة حول مشروع القانون، بما يحفظ حق البرلمان فى التشريع، وحق الرئيس فى إدارة البلاد؟ أم تظل المعركة قائمة؟ وهل يكون البديل إسناد اختيار القضاة للبرلمان بشكل مباشر، أو إخضاع الأمر للانتخاب الشعبى العام، مع ما فيهما من صعوبات وعقبات قد تستلزم إجراء دستوريا؟ البدائل عديدة والأنظمة القانونية والدستورية العالمية تضم عشرات الشواهد والأمثلة، الاستقلال قائم فيها جميعا، والبرلمانات والرؤساء لا يُتهمون بتجاوز السلطات، والقضاة لا يتحرجون من القضاء عكس اتجاهات الحكومات ومؤسسات الرئاسة هناك، وهو ما يؤكد أن المشكلة القائمة لدينا ربما لا تكون مشكلة قانون ولا آليات تنظيم، ولعلها تحمل إشارات على صراع ما حول مساحات النفوذ والمناطق المقدسة التى يرى البعض أنها لا تقبل المساس، بينما الأصل فى الأمور الدستور والقانون، فقط لا غير، ولا قداسة خارجهما، ولا قداسة إلا للشعب، مصدر السلطات ومانحها.
 









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة