سالم المراغى يكتب: ملحمة للعطاء عند سكان جزيرة الشورانية فى صعيد مصر

الجمعة، 24 مارس 2017 02:00 م
سالم المراغى يكتب: ملحمة للعطاء عند سكان جزيرة الشورانية فى صعيد مصر أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

حقيقة وقبل البدء لربما أصعب شيء واجهته محدثكم ككاتب هذه السطور، بعدما شرعت فى تجسيد وكتابة عنوان، لملحمة سكان هذه القرية الريفية فى صعيد مصر، المؤكد أن أولى الصعاب كانت من خلال العنوان ! كيف أصفهم وأجسد ملحمتهم الموجودة والمسطرة سلفاً وقولاً على الأرض وتحتاج لعنوان أختزل فيه عطائهم الجميل، وتكافلهم الراقى، وإيثارهم النبيل، على كل اهتديت للعنوان أعلاه (ملحمة للعطاء عند سكان جزيرة الشورانية فى صعيد مصر).

هم ناس بسطاء حقيقة، ريفيون ككل أو جل المصريون، متدينون بالفطرة سواء كانوا مسلمون أو مسيحيون، تذوب الأسماء، والعادات والتقاليد، وتتلاشى الفوارق من ملبس ومأكل وأسماء ( ولهجة ) وثقافة، حتى يصعب أن تفرق، بين عاطف، وكرم وكريم وصبرى وصابر وعيسى وموسى وإبراهيم ونجيب وبشير وربيع وعادل وعلاء وأنور، لا يمكن إلا أن تقول عنها أسماء مصرية، ملك للكل والكل يشارك فيها ويتقاسمها هى وغيرها ولو لم يطلع امرؤ ما على خانة الديانة فى البطاقة لما استطاع أن يفرق بين أى منهم ولم لا والتربة والطينة وماء النيل والهواء ورائحة الزرع والنبات والمكان تصبغ الكل بصبغتها.

ولذلك ( والأتى هو بيت القصيد ) ولد من رحم وفلسفة التفكير فى الموت والحياة، أنهم شرعوا مثلاً فى تجسيد معنى للتكاتف والتآزر والإيثار، وتكوين جمعية تحمل اسم ( جمعية الشورانية للتنمية ) وأين ؟ فى القاهرة فى بولاق الدكرور، فلم يجدوا مشروعاً أو عملاً وفكرة تكون باكورة عملهم وعطائهم المستمر، سوى شراء سيارة تخدم الميت قبل الحى، أسموها ( سيارة تكريم الإنسان ) تكون ملك للكل، المسيحى قبل المسلم، فهلاً أدركتم قيمة ومعنى وفلسفة العنوان أعلاه ( ملحمة للعطاء عند سكان جزيرة الشورانية فى صعيد مصر)؟

 

فقط دعونى أن أعرج أولاً لماض، أو فكرة بداية الجزيرة، وتكوينها فى قلب النيل، كما تواتر عن الأولون الأقرب للأسطورة، عن قصة نشأة الجزيرة، التى كانت أو بدت كحلم فى مخيلة إبائنا وأجدادنا الأولون ! حلموا بها فى سنوات رعيهم ولهاثهم، وبحثهم عن الماء والكلأ لهم ولماشيتهم، فتخيلوا أو حلموا بمكان بجزيرة تحتويهم وتحتضنهم، فى قلب النهر وحضن الماء، كما يحلم الشعراء والمحبون والرومانسيون، وتقول الأسطورة: أن جذور القرية وتربتها وجيناتها، ما هى إلا مركب نيلى غرق فى قلب النيل فتجمع أو تراكم فوقها الطمى القادم من الجنوب مع النهر، فتكونت وتراكمت تربة جزيرة الشورانية الوليدة فوق المركب الغارق، وجاء فرد واثنان وعشرة وعشرون ومائة، فاتسعت رقعة المكان بفعل تراكم الطمى تارة والتوسع المفتعل والتمدد تارة أخرى، حتى صارت جزيرة الشورانية اليوم أكبر جزيرة نيلية فى بر مصر المحروسة.

نعم هكذا ولد الحلم والحقيقة كتخيل عند الرعاة الرحل الأولون الذين جاوروها أو وفدوا إليها ممن تحولوا لاحقاً لمزارعون، أحبوا وتمنوا وتخيلوا وعملوا حتى ان قبل يكتب نزار قبانى وتشدو نجاة ( الحب فى الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه ) وهكذا بدت أو كانت قصة الشورانية، كاختراع ترعرع، ووقف، وصمد بدون يابسة ! وسط جريان الماء ! وتحدى حتى الفيضان، الذى كان يأتى هادراً من الجنوب، فيأخذ فى طريقه كل شيء الأخضر واليابس، المزروع والمحصود، بل البشر والشجر، حتى الواقفون منهم على اليابسة، يبتلعهم فيضان النيل قبل بناء السد، ومع ذلك بقى أو صمد أهل الشورانية الأولون وكبر حلمهم وتخيلهم فى إقامة وطن فوق الماء ! كما يتخيل الشعراء.

ولم لا وهم فى حقيقتهم وجيناتهم وتكوينهم من ذلك النسل أو حتى الخليط ما بين مصريون فراعين وعرب، وفى عقيدتهم ( كفراعين تحديداً ) فكرة الخلود، أن يعد ويجهز كل شيء للميت قبل الحى ! إيمانا بالبعث والحياة والخلود، وإلا فمن يصدق أنه فى خضم وذروة جمع التبرعات، التى جادت بها أياد وقلوب وعقول، نَجَم العطاء، وتفتق الذهن عن تبرعات غاية فى الفلسفة ! مثل كفن يعطى أو يدخر لغير قادر ! وصندوق لدفن الموتى يغنى المحتاج عن إيجار صندوق، لذلك كان التفكير أول ما فكروا بشراء عربة، سيارة لنقل ودفن الموتى أسموها ( سيارة تكريم الإنسان ) يا سلام ! أرأيتم أكثر من تلك فلسفة ؟ بل رقى فى التعامل والتضامن مع الميت قبل الحى ! أن تشترى وتمتد الأيادى والسواعد وتتكاتف وتجود، بمبلغ تم جمعه، لشراء سيارة تكريم الإنسان، أن يزف من خلالها الميت، من أخر محطة وهو يغادر؟

 

نعم.. لم يفكر أحد فى مشروع ما يدر ربحاً.. عفوا لقد فكروا حقيقة، بل تشاجروا، وتعاركوا، واختلفوا حول الأولويات والضروريات، ثم استقروا وقرروا واتفقوا: أن البداية يجب أن تكون من الموت ! قبل الحياة ! كفلسفة قدماء المصريون وأول شعب عرف التوحيد وكشريعة غراء تعلمنا ( أن يعمل المرء لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لأخرته وموته كأنه يموت غداً ) ولذلك بدأت الخطوة بما يلزم من مراسم وأدوات الموت ( سيارة تكريم الإنسان ) وبالكفن، والسائق الذى تبرع وتطوع أن يقود السيارة، والحانوتى الذى سيغنى عن وقوف حانوتى غريب فوق القبر، وعلى رأس الميت ورؤوس الأشهاد بعيد الدفن، ويضع المعزون وأهل الفقيد أمام حيرة الفصال والجدال، عن أتعاب المكفن وأجرة المغسل، مما يثبت حقيقة عن أهل جزيرتنا وقريتنا أننا أحفاد أوفياء ومن نسل قدماء المصريون.

 

وعندما أقول بدأوا بالموت والتابوت والكفن، وسيارة تكريم الإنسان فذلك لا يعنى التسليم تماماً بفكرة الموت وحده، أو أنهم تغاضوا عن مقومات وضرورات الحياة لا.. بل لكم أن تستمروا فى اندهاشكم أو حتى تعجبكم من تلك السواعد التى امتدت ودشنت ( جمعية الشورانية للتنمية ) وأين ؟ فى بولاق الدكرور، أو كما يطلق عليها ( مجازاً ) عم عوضين هو وزوجته هنومة ( أرض المهجر ) فسبحان الله فالجزيرة، والريف عموما فى الصعيد، لم يكن طارداً للبشر يوماً، حتى وقتما كان الفيضان يجيء مكشراً عن أنيابه، وجريانه، مبتلعاً كل شيء أمامه، كان هناك ما يكفى، لتتغير الصورة والمشهد اليوم، وتجد الرقعة تتقلص والجزيرة ينحرها النهر، والهجرة للقاهرة وبولاق الدكرور تزداد، لا ليس للقاهرة وبولاق فحسب، بل حتى للصين شرقاً وكندا غربا !.

ولذلك يسمى عم عوضين بولاق الدكرور أرض المهجر ! بحسب مخيلته وتفكيره القديم عندما كان يشرع أى من الأحفاد أو الأولاد للسفر للقاهرة لغرض ما، تعليم أو عمل، أو حتى ( كتمرد ) على حياة القرية كان يودعه عوضين وزوجته هنومة، مع حشد كبير من أهل القرية على محطة القطار، وكأنهم يشيعون المسافر لمثواه الأخير ! بكاء ودموعاً ! خاصة عندما يطلق القطار نفيره الأخير، والناس مصطفون على رصيف المحطة، لماذا ؟ لأن السفر لم يكن معمولاً به عند أهل قريتنا، ربما ككل القدماء المصريون وكاكتفاء ذاتى ولا أقول انكفاء على الذات ! فلم يطئوا، أو يغتصبوا أرضاً كغزاة بل كفاتحون وملبون لنجدة، وذلك يفسر حقيقة كيف: أن كل الغرباء ذابوا فى مصر وصهرتهم ومنحتهم بشرتها، ولونها ولهجتها.

لذلك تغير الحال حقيقة فيما يتعلق بالهجرة ! وتم التسليم من عم عوضين وزوجته هنومة، بما أفرزته، وأقرته، وفرضته الحياة، ومعيشة اليوم بضرورة الهجرة، سواء لبولاق الدكرور وما شابهها وجاورها من ضواحى وعشوائيات، أو حتى للصين شرقاً، وكندا غربا كما أسلفت، مرورا بالجوار والمحيط العربى، أن تجد الصعيدى قد بنى وعمر وشيد على قدميه والسلم صعوداً قبل المصعد، وعلى الكتف قبل الرافعة، حتى بات السفر وأصبح عقيدة لا فلسفة ! ومن يتحصل اليوم على عقد عمل، تزغرد له أمه ! رغم أنه سيتركها ويهاجر ! وتبيع فى سبيل رحيله وهجرته القرط والقيراط ! حتى ليشهد الجميع وخاصة فى الخليج أن كل ذلك الذى شيد وتطاول من عمران ما هو إلا من جهد وعمل وعرق، ذلك الصعيدى البسيط فى مظهره ولكنه من الشموخ فى تكوينه ومصريته، ولا يرضى بالضيم لأحد فكيف يرضاه لنفسه ؟.

 

ولذلك كل ما سلف يفسر كيف جاءت أو ولدت فكرة سيارة تكريم الإنسان فى قريتنا، أن يبدأوا بها هكذا ويقرروا البدء بالميت ! أن يشيلوه على كفوف الراحة برداً وسلاماً وأن ينام النومة فى مقره ومثواه.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة