إيناس الشيخ

عن المتحرشين أصحاب "السوستة المفتوحة"

الخميس، 16 مارس 2017 07:25 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت صغيرة جداً عندما رأيت المتحرش الأول فى حياتى، لم أكن أملك القدرة على التمييز وقتها، ولم تكن أجهزتى الخاصة باستشعار الخوف قد نمت نمواً كاملاً لأدرك أن ابتسامة "عمو بتاع المكتبة" ليست ابتسامة رجل ستينى عجوز لفتاة لم تبلغ عامها السادس بعد، أو لأفهم السبب خلف سحّابه المفتوح دائماً كلما رأيته، كصور عديدة ظلت حبيسة عقلى من أزمنة الطفولة البعيدة تماماً الآن، ظلت صورة "السوستة" المفتوحة وما ظهر من تحتها واضحة فى عقلى تمام الوضوح، أتذكرها جيداً كلما رأيت " سوستة مفتوحة" لرجل اختار أن يرينى عنوة ما لا أرغب فى رؤيته، أشعر بالوخز نفسه كلما رأيت ابتسامته التى أفهمها تماماً الآن مرسومة على وجه متحرش آخر ضمن مئات قابلتهم فى حياتى ليتركوا فى عقلى مشاهد عالقة أخرى.
 
لم أنس وجه "عمو" كما لم أنس أبداً وجوه المتحرشين الذين أضفتهم لأجندتى الخاصة بالتحرش، فكما نعلم جميعاً كل فتاة مصرية تمتلك واحدة من تلك الأجندات التى نرسم على أوراقها الرجال عرايا كما رأيناهن تماماً فى لحظات التحرش التى تمر دهراً، نرسم بداخلها صورة تقريبية للوجع إذا جاز رسمه، فيخرج خطوطاً متشابكة لا يقو على فكها الوقت أو البوح.
 
لم أحاول فك خطوط أجندتى أو انتزاع أحد الرجال من على صفحاتها، كنت بالفعل قد نسيت ذلك الوخز المنذر بخطر ما يمتد من أجسادهم ليلمسنى فى المواصلات العامة أو فى الشوارع نهاراً، كنت قد نسيت أيضاً هذه الغصة التى تعرفها النساء جيداً فى لحظات الانتهاك لمجرد المرور بجانب من يملك القدرة على الانتهاك، توقفت منذ ثلاث أعوام عن الركض خلف الأتوبيسات العامة، أو القفز فى سيارات المترو، أصبحت أمتلك سيارة ابتاعتها لى أسرتى لحمايتى من رؤية أصحاب "السوست" القابلة للفتح، نسيت هذا كله قبل أن يعود كاملاً بتفاصيله لعقلى عندما رأيت أحدهم خلف زجاج سيارتى منذ عدة أيام.
 
 كانت الساعة تقارب الحادية عشر، ليلة خميس مزدحمة، شارع البطل أحمد عبد العزيز بالمهندسين توقف تماماً عن الحركة كما هى العادة، وقفت فى الزحام كما غيرى، انتظرت مرور السيارات ببطء قبل أن ألحظه راكضاً بقوة خلف سيارتى فى المرآة، توترت أعصابى، أصابتنى الرعشة، وعاد لقلبى الوخز الخفيف ووجه "عمو" المبتسم فى رضا عما ينتزعه من برائتى، أغلقت الزجاج بجانبى، ضغطت على زر القفل لمنعه من فتح الباب إن حاول، وعلى الرغم من ضغط الزر عدة مرات إلا أن الخوف من اقتحامه المفاجئ لسيارتى ازداد تدريجياً كلما اقترب من السيارة، التصق بالزجاج، يمنعنى زحام الشارع من الحركة، نظرت له فى رعب لاصطدم مرة أخرى "بسوستة مفتوحة" يحاول صاحبها اقتحام الزجاج بإصرار مرعب.
كأى متحرش آخر أمسك بهاتفه المحمول متصنعاً الانخراط فى محادثة هامة، وبيده الأخرى يحرك الجزء الأسفل من جسده بقوة حتى يجبرنى على النظر، أما أنا فتملكتنى حالة من الهستريا، أصرخ داخل السيارة، ترتعد أطرافى بقوة، لا أقو حتى على الإمساك بهاتفى، ولا أعلم بمن سأتصل، استمر فى الضغط على زر القفل بقوة وكأنما ستوقفه حركاتى المتوترة عن الاستمرار، مازال الشارع مزدحماً ومازال الرجل مصراً بشكل لا أفهمه على عرض ما لديه من بؤس، يطوف حول السيارة منفعلاً، ينظر لى بقوة وعنف وكأنما يقول "ما تبصى بقى"، مازلت أنا أصرخ، أنظر حولى للمارة وسائقى السيارات، ينظرون هم للمشهد ويغلقون زجاج سياراتهم، يرفعون صوت الراديو، ويتجاهلون الأمر برمته، أتحرك خطوات بسيطة بعصبية تكاد تطيح بمرآة سيارتى اليسرى، يلاحقنى الرجل وسط الزحام وكأنما نحن وحدنا على كوكب آخر لا يعترف أصحابه بالمتحرشين، ولا يحركون ساكناً لفتاة ملأت الشارع صراخاً، وامتلأ قلبها رعباً، وسقطت كرامتها تحت عجلات السيارات فى شارع مزدحم.
 
10 دقائق كاملة مرت دهراً، خف الزحام، ضغطت على دواسة البنزين بعنف لأبتعد ثم وقفت على جانب الطريق أحاول السيطرة على رعشة أطرافى، يمر من أمامى مشاهد المتحرشين، وجوههم، "سوستهم" المفتوحة التى أحاول دائماً تجاهل النظر إليها، يمر من أمامى مشاهد ركاب الأتوبيسات ممن يخرجون أعضائهم بأريحية فى المواصلات العامة، أو يمدون أيديهم على من يرونها جالسة أو واقفة، أرى الآن كل صفحات أجندتى، وكل متحرشيها بابتساماتهم السمجة ذاتها، أشعر بوخز جديد أكثر قوة، فانا من كنت أظن أن سنوات التحرش فى حياتى قد مضت، وأننى اليوم قادرة على الوقوف فى صفوف المدافعات وليس الضحايا، أنا من كنت أظن أن عدم اقترابى من المواصلات مرة أخرى كفيل بحمايتى، وأنا أيضاً من أرصد يومياً - بحكم عملى- ارتفاع إحصائيات التحرش بشكل مستمر، أنا من استمع للقصص، أكتبها فى موضوعات صحفية تدافع عن الفتيات اللاتى يمتلكن الأجندات ذاتها، أدركت فى العشر دقائق التى رأيت فيها أحدث زوار أجندتى، إننى لست قوية كما كنت أظن، امتلأت رعباً بمجرد رؤية المتحرش مرة أخرى من خلف شباكى، لست مدافعة عن حقوق الفتيات، ولست صحفية ترصد حكياتهم، أنا امرأة مصرية أخرى يمكن انتهاك حرمة جسدها فى الطرقات العامة، ولن يعترض أحد.
 
احتفظت بالقصة فى أجندتى عدة أيام، حتى خرج علينا والد عبد الرحمن بمداخلة "اللى عنده معزة يربطها"، وكأنما يثنى على ما فعله المتحرش، يشجعه على "فتح السوستة" فى وجه العابرات، "يربط المعزات" ليتجول أصحاب "السوست" فى الشوارع بحرية، يربى الأب متحرش آخر، أرى مستقبل "عبد الرحمن" خلف زجاج سيارتى، يعيد المجتمع إنتاجهم بفظاظة، يربونهم على مبدأ "ابنى يبوس اللى هو عاوزه" فيستمر مسلسل التحرش بأجزاء جديدة أكثر قسوة.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة