فى الحلقة الرابعة من المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى "يوما أو بعض يوم".. الكاتب يروى حكاية مواجهة الموت داخل غرفة الإعدام.. ويكشف سر مراتب "التبن".. ومن هى "أم حسن" كاتمة أسرار المعتقلين بسجن الاستئناف

الخميس، 30 نوفمبر 2017 04:30 م
فى الحلقة الرابعة من المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى "يوما أو بعض يوم".. الكاتب يروى حكاية مواجهة الموت داخل غرفة الإعدام.. ويكشف سر مراتب "التبن".. ومن هى "أم حسن" كاتمة أسرار المعتقلين بسجن الاستئناف الكاتب الكبير محمد سلماوى
كتب أحمد منصور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نواصل اليوم نشر الحلقة الرابعة من السيرة الذاتية للكاتب الكبير محمد سلماوى التى أطلق عليها "يومًا أو بعض يوم" الصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، حيث كشف فى الحلقة الثالثة لغز الأجندة الحمراء، وحكاية تعرضه لغرغرينة فى ذراعه اليمنى، وأفصح عن كواليس زيارة نقابة الصحفيين للمعتقلين.. ويكمل سلماوى كلامه..

 

ومما زاد من كآبة ذلك اليوم أنه كان اليوم الذى شاهدت فيه غرفة الإعدام، كانت غرفة عادية لا يميزها شىء من الخارج إلا اللافتة التى تعلوها، والتى كتب عليها بلون الدم الأحمر القانى "غرفة الإعدام"، وكانت تقع فى الدور الأول ويوصل إليها ممر طويل آخره باب حديدى، أما فى الداخل فلا يوجد بها إلا المشنقة التى يتدلى منها ذلك الحبل الغليظ المثبت حول عجلة معدنية أعلى المشنقة وينتهى طرفه الآخر بالأنشوطة التى يتم إدخال رأس المحكوم عليه بالإعدام فيها، وتحت المشنقة هناك الطبلية المكونة من ضلفتين خشبيتين يقف عليهما المحكوم عليه بالإعدام، وبجانب المشنقة ذراع كبير يسمى السكين حين يسحبه "عشماوى" تنفتح ضلفتا الطبلية من النصف فيسقط جسد السجين  المشنوق داخل غرفة سفلية عمقها ٤ أمتار، أما طول الحبل فهو ما يقوم "عشماوى" بتحديده حسب طول ووزن المحكوم عليه، وهى عملية دقيقة تعتمد على تقدير عشماوى نفسه، لأن الحبل إذا كان طويلا ووزن المحكوم عيه ثقيلا سينزل جسده بسرعة إلى قاع الغرفة السفلية وهذا الهبوط الشديد قد ينتج عنه كسر رقبة المشنوق وانفصالها عن جسده، وهو غير مسموح به ولا يتسبب فيه إلا عشماوى لا خبرة له، وفى نفس الوقت إذا كان الحبل قصيرا أكثر مما يجب ولا يتناسب مع طول المحكوم عليه ووزنه فتكون النتيجة ألا يكسر عنقه ومن ثم لا يموت، وقد قيل لى أن "عشماوى" سجن الاستئناف عم حسين الذى لم يكن موجودا أثناء زيارتى، له قدرة فائقة على ضبط طول الحبل بمجرد أن يلقى نظرة على المحكوم عليه وحجم جسده، حتى تؤتى عملية الشنق تأثيرها المطلوب فتنكسر عنقه دون أن ينفصل الرأس عن الجسد، وبعد أن يقيس الطبيب نبض المشنوق ويعلن وفاته يترك الجسد لمدة نصف ساعة إلى أن يتجلط الدم الداخلى الذى نزف من جراء كسر العنق قبل أن يتم فك الحبل من حول الرقبة.

 

كانت غرفة الإعدام كالحة، حوائطها عارية من أى شىء، وربما كانت الغرفة الوحيدة بهذا السجن القذر الذى لا تعلو حوائطها علامات الأيدى المتسخة التى كانت تغطى كل حوائط السجن من آثار آلاف المساجين الذين دخلوا هذا السجن وخرجوا، أو لم يخرجوا، أما هذه الغرفة فكانت بلا أى علامات على الحياة أو آثار للزمن، فهى غرفة الموت، والموت نقيض الحياة وقاهر الزمن، فى هذه الغرفة شعرت لأول مرة فى حياتى أننى فى حضرة الموت، ولقد شاهدت أمواتا من قبل لكنى كنت أشاهد جسدا فارقته الحياة ولم أشاهد الموت نفسه إلا اليوم، شاهدت الموت بوجهه الكالح المخيف وارتعدت فرائضى وأنا أسمعه يقول بملء الفم: ها أنا ذا، قائم مدى الدهر، ولا غالب لى.

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

وقد سمعنا كثيرا أثناء تلك الفترة عن وجود ضريح للسيدة صفية داخل السجن، وأن لها كرامات يشهد بها بعض المساجين الذين تضرعوا إليها فنالوا البراءة، لكننا لم نشهد هذا الضريح.

 

فى المساء احتفلنا بعيد ميلاد ريم ابنة محمد يوسف زميلى مع أحمد الجمال فى الوفد الرباعى الذى رأسه كمال أحمد يوم طالبنا بتنظيم سياسى للناصريين.

 

 

فى اليوم التالى كانت الشكوى من الشخير الذى يعم الزنزانة كل ليلة ويحول دون نوم البعض منا، وقال فيليب جلاب محتدا: "ده مش شخير.. دى مظاهرات".

 

كان الشاويش النوبتجى علينا فى ذلك اليوم هو الشاويش رضوان، الذى ظللنا ننتظر فترة طويلة أن يفتح لنا باب الزنزانة لقضاء حاجتنا، لكنه لسبب غير معلوم تأخر فى المجىء فى ذلك اليوم فتأخر فتح باب الجنة، وظل البعض ينادى عليه من داخل الزنزانة دون جدوى، وحين جاء أخيرا هو وبعض الشاويشية الآخرين كانوا يحملون لنا هدية ثمينة هى المراتب التى دخلت زنزانتنا لأول مرة منذ وصولنا إلى السجن، لم تكن مراتب أسفنجية ولا كانت قطنية وإنما كانت محشوة بما يشبه التبن الذى تأكله البهائم، وهو ما يطلق عليه المنجدون اسم "الكرينة"، لكنا لم نلتفت إليها بل اندفعنا خارج الزنزانة إلى دورات المياه التى وصلها بعضنا فى الرمق الأخير، وبعد أن عدنا إلى الزنزانة فرحنا بالمراتب فرحة كبيرة.

 

 

اليوم على ما يبدو كان يوم الزيارات. كانت لى زيارة من نازلى، كما كانت هناك زيارة لفيليب جلاب من زوجته سهير وأخرى ليوسف صبرى، وقد دعانا يوسف يومها على وجبة كشك صعيدى كان قد طلب من أسرته إعدادها لنا، وكنت أتناول هذا الكشك لأول مرة والذى كان يختلف تماما عن الكشك الذى نطهيه عندنا، فوجدته عظيما، وقد أكلته عدة مرات بعد خروجى من السجن لكنه لم يكن مثل ذلك الذى أحضره لنا يوسف صبرى.

 

 

أما أهم ما أحضرته لى نازلى فى ذلك اليوم فكان صورة الأولاد التى طلبتها، والتى صورتها بنفسها لهذا الغرض، ورغم أن الصورة ظلت تلازمنى طوال الفترة التى قضيتها بالسجن إلا أننى لم أجدها بين أشيائى التى احتفظت بها بعد خروجى.

 

 

لم تستطع نازلى أن تخفى انزعاجها من هزالى الواضح بسبب المضادات الحيوية والأنفلونزا التى كنت أعانى منها، وقد استبد بى السعال طوال الزيارة فأخذ ينتابنى فى نوبات كانت فى بعض الأحيان تحول بينى وبين الكلام. وقد اكتشفت وسط الأشياء التى أحضرتها لى نازلى ملعقة بلاستيكية جديدة دون أن أطلب منها ذلك، كما أحضرت لى إلى جانب الوجبات الأخرى صينية كبيبة من قويدر كانت مثار استحسان الزملاء جميعا.

 

محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير ١٩٧٧
محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير 1977

 

بعد عودتنا إلى الزنزانة نادى أحد الشاويشية على حسين عبد الرازق، وقالوا إن له تليفون، والتليفون فى السجن هو سطح بيت أم حسن التى كانت تسكن وراء مبنى السجن فى منطقة درب سعادة، وكان من يريد أن يخاطب أحد المساجين خارج أوقات الزيارة يصعد إلى سطح بيت أم حسن ليتحدث إلى السجين المطلوب من شباك السجن، وذلك نظير مبلغ يدفع من زائر السجين لأم حسن ويتصاعد كلما طالت المكالمة، ولابد أن أم حسن صنعت لنفسها ثروة كبيرة من تليفونها هذا، فقد كان السطح يضج بالزيارات طوال اليوم مما كان يسبب لنا مشكلة، حيث كثيرا ما يكون فوق السطح 10 أو 12 زائرا يتحدث كل منهم إلى سجينه فى نفس الوقت فتتداخل المكالمات ما بين من جائت تطلب الطلاق من زوجها وتدعى عليه ألا يخرج من السجن أبدا بعد العذاب الذى أذاقه لها على مر السنين، وبين من جاء يخطر شقيقه أن والدهما قد توفاه الله ويطلب منه عمل توكيل رسمى له ليستطيع إتمام الإجراءات القانونية المطلوبة فى مثل هذه الحالات، وتختلط شتائم الزوج لزوجته التى تطلب الطلاق مع كلمات المواساة لمن توفى والده، وتشتبك أسلاك التليفونات مع بعضها البعض، وكثيرا ما كانت أم حسن تتدخل بنفسها فى المكالمة لتحاول التوفيق بين الزوج وزوجته، أو لتكيل الشتائم للزوج الذى أذاق زوجته المر، كما كانت تتدخل لتقول لأحد الزوار أن مدة المكالمة انقضت وأنه إذا أراد الاستمرار عليه أن يدفع أجرا إضافيا.

 

 

وقد كان الوصول إلى شباك السجن مشكلة أخرى، فالشباك يقع فى أعلى الزنزانة المطلة على بيت أم حسن والذى يبلغ ارتفاع الحائط فيها أربعة أمتار على الأقل، فكيف السبيل لتسلق الحائط للوصول إلى الشباك؟ كان المساجين يربطون البطاطين فى بعضها البعض ويعلقونها فى قضبان الشباك، فيتسلق عليها السجين إلى أن يصل إلى مستوى الشباك ويجلس عليها كالأرجوحة، وكان الشباك رغم صغره يتزاحم عليه أكثر من سجين فى نفس الوقت ويظل المساجين الآخرين ممسكين بالبطاطين من أسفل حتى لا يسقط السجين على الأرض من هذا الارتفاع فتنكسر رقبته.

 

وهكذا فالفرق الأساسى بين المكالمات التليفونية العادية ومكالمات تليفون أم حسن هو أن المكالمة العادية لا يشارك فيها إلا طرفان، وربما طرف ثالث من أمن الدولة يتنصت على المكالمة بدون أمر من النيابة، أما مكالمات أم حسن فتشارك فيها أمة لا إله إلا الله، بالإضافة للأصوات التى تحيط بها من المارة الذين يصرخون فى الشارع والباعة الجائلين الذين ينادون على بضاعتهم بالصوت الحيانى.

 

مفكرتي الحمراء التى كنت أدوّن بها احداث السجن يوما بيوم
مفكرتي الحمراء التى كنت أدوّن بها احداث السجن يوما بيوم

 

كل ذلك لم أكن أعرف عنه شيئا إلى أن ذهبت مع حسين عبد الرازق إلى مكالمته التليفونية التى كانت من زوجته الكاتبة الصحفية فريدة النقاش التى استطاعت أن توصل له رسالتها بالكامل متخطية كل هذه التداخلات.. وإلى الحلقة الخامسة..










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة