فى الحلقة الثانية من المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى "يوما أو بعض اليوم".. الكاتب يكشف لغز صورته وسط المظاهرات.. ووزير الخارجية قال لأسرته "التهمة لبساه 100%".. وما هى حكاية البغبغان داخل السجن

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2017 04:30 م
فى الحلقة الثانية من المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى "يوما أو بعض اليوم".. الكاتب يكشف لغز صورته وسط المظاهرات.. ووزير الخارجية قال لأسرته "التهمة لبساه 100%".. وما هى حكاية البغبغان داخل السجن المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى تحت عنوان " يوما أو بعض اليوم"
كتب أحمد منصور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نواصل اليوم نشر الحلقة الثانية من السيرة الذاتية للكاتب الكبير محمد سلماوى والتى أطلق عليها "يومًا أو بعض يوم" الصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، حيث جاء فى الحلقة الأولى أحداث اعتقاله منذ وصوله إلى سجن الاستئناف بسبب تحريض الشعب على الخروج للتظاهر، بسبب ارتفاع الأسعار.. ويكمل سلماوى كلامه..

 

فى اليوم التالى استدعيت إلى مكتب مأمور السجن حسين كامل عثمان، الذى كان ودودا متفهما لوضعنا، وفوجئت هناك بزوجتى نازلى التى كنت قلقا عليها، لكنى وجدتها متماسكة وقوية بأكثر مما كنت أتوقع. كانت فرحتى عارمة. كانت معها والدتى التى أخبرتنى نازلى أنها منذ علمت بالقبض على لم تنهض من سريرها إلا اليوم لزيارتى، كما كان مع زوجتى والدها الأستاذ محمود مختار مدكور المحامى ووالدتها التى حملت لى معها "عمود" أكل، وهو عبارة عن أوان معدنية مستديرة يوضع بها الطعام كالحلل، ويثبت كل إناء منها فوق الآخر بعمودين جانبيين، وقد كان هذا العمود فى عائلة حماتى منذ سنوات، حيث كان خالها إبراهيم رشيد قد اعتقل لفترة طويلة فى سنوات الستينيات، فقد كان متزوجا من ابنة رئيس الوزراء الأسبق إسماعيل صدقى باشا وكان مديرا لمكتبه، وبعد سقوط الملكية كان ناقما ودائم التهجم على سياسات الثورة التى اعتقلت لدفاعى عنها، وقد مكث إبراهيم رشيد وراء القضبان تسع سنوات كاملة. فظل هذا "العمود" الصامد يؤدى مسئوليته الوظيفية بشرف وأمانة طوال تلك السنوات، وجاء اليوم يواصل تلك المهمة غير عابئ بتباين المواقف السياسية لكل من السجينين، وقد ظللت أتلقى في أوانى هذا العمود المجيد مع كل زيارة من زوجتى طعاما وفيرا كان يكفى الزملاء جميعا.

 

محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير ١٩٧٧
محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير 1977

 

طمأنتنى نازلى على الأولاد وقالت إن سيف قد خفت حرارته، وإن سارة دائمة السؤال عنى، فطلبت منها أن تأتى لى بصورة لهما فى المرة المقبلة.

 

لاحظت نازلى الورم والاحمرار حول كوعى، وسألتنى والدتى فى انزعاج عما حدث، ورأيت فى نظراتهما علامات القلق والخوف من أن نكون قد تعرضنا للتعذيب، لكنى طمأنتهما بأن المسألة لا تعدو كونها خدش صغير فى دورة المياه، وهو ما زاد من قلق والدتى التى قالت لمأمور السجن: "أليس لديكم طبيب هنا فى السجن؟ إنه يجب أن يتناول مضادا حيويا على الفور، فمن الواضح أن الجرح تلوث"، فوعد الرجل بأن يجعلنى أمر على العيادة وطلب منى أن أوقع أمامها على طلب بهذا المعنى ففعلت.

 

وعلمت فى هذه الزيارة من والدتى أن الفضل للمهندس سيد مرعى رئيس مجلس الشعب آنذاك وصهر الرئيس السادات فى أنهم علموا أننى مازلت على قيد الحياة، وعرفوا مكانى، بعد أن انقطعت أخبارى عنهم تماما منذ خرجت من بيتى فى المعادى فى ذلك الصباح مع ضابط مباحث أمن الدولة "لكلمتين مع المدير" على حد تأكيده لى، وكان أمين الشرطة الذى صحبنا إلى سجن القلعة قد اتصل بزوجتى كما وعد وأبلغها بأننى فى القلعة، لكنى فى ذلك الوقت كنت قد تم ترحيلى إلى سجن الاستئناف فأبلغهم سجن القلعة أنه لا يوجد لديه سجين بهذا الاسم.

 

مفكرة محمد سلماوى
مفكرة محمد سلماوى

 

وكان سيد مرعى الذى تزامل مع والدى من عهد الطفولة، قد أخبر والدتى أنه اتصل شخصيا بوزير الداخلية الذى أخبره أن "التهمة لابسانى مائة بالمائة"، وأن أجهزة الأمن لديها صورة لى وسط المظاهرات محمولا على الأكتاف وأقود الهتافات!! وأكد لوالدتى أنه يتابع الموضوع لكنه سيستغرق بعض الوقت بسبب حالة الفوضى القائمة آنذاك وخطورة الوضع السياسى الذى خلفته الأحداث.

 

وقد اتصل بى سيد مرعى بعد خروجى من السجن وطلب أن يرانى، وفى غرفة المعيشة ببيته فى شارع شجر الدر بالزمالك أحسست أنه أراد أن يطمئن إلى أن تجربة السجن لم تكسرنى. قال: "لقد اخترت طريقا كان عليك أن تدفع ضريبته، ولا أقول أنك كنت تستحق الإعتقال، بل أقول أن الإعتقال بدون وجه حق هو أحد حقائق الحياة السياسية فى بلادنا، وعليك أن تنظر له على أنه تدشين لمواقفك السياسية التى اخترتها بكامل إرادتك، كما أنه دليل على أن الدولة تأخذك مأخذ الجد، وإلا لما التفتت إليك". 

 

حرصت على أن أؤكد له أننى لم أشارك فى المظاهرات، وأن قصة الصورة التى نقلها إلى أسرتى غير صحيحة، وقلت له إننى اعتقدت فى البداية أنه ربما كانت هناك بالفعل صورة مركبة وضع عليها وجهى، لكنى فوجئت أن أحدا لم يواجهنى بهذه الصورة المزعومة أثناء التحقيق، ولا تقدمت النيابة بمثل هذه الصورة للمحكمة كدليل على إدانتى، لكنه قاطعنى قائلا ما أذهلنى: "أنا أعلم وأنت تعلم أن الكثير مما يقال فى هذه الأحوال لا يكون صحيحا، ولقد تأكدت بنفسى أن ما قاله لى وزير الداخلية كان كذبا، لكن السياسة هى أن تتعامل مع الواقع كما هو، أما إنكاره، وعدم القدرة على التعامل معه فيعنى أن عليك أن تترك السياسة وتظل فى مجال الأدب، لتتخيل فى كتبك العالم الذى تريده، وأنت قد اخترت إلى جانب الأدب أن يكون لك موقف سياسى معارض، وهذا يدخلك إلى قلب الحياة السياسية، فعليك أن تتعامل مع الواقع السياسى القائم.

 

كان سيد مرعى واقعيا لم يحاول أن يزيف لى الحقيقة كى يخفف عنى، واعتبر أن واجبه أن يبصرنى بالواقع على حقيقته، وقد فعل ذلك بأفضل ما يكون.

 

وكان أول من زار نازلى بالمنزل بمجرد إعلان رئيس الوزراء نبأ القبض على هو الأستاذ هيكل الذى أخبرها هو الآخر أثناء الزيارة أن أجهزة الأمن لديها صورة لى محمولا على أكتاف المتظاهرين، فنفت له ذلك مؤكدة أننى طوال يوم 18 يناير كنت فى "الأهرام" وأنها اتصلت بى هناك عدة مرات لترتب معى المرور عليها بالجامعة الأمريكية فى المساء، حيث كانت تحضر المحاضرات الخاصة برسالة الماجستير التى كانت تعد لها، أما فى اليوم الثانى للمظاهرات فقد قبض على قبل أن أخرج من البيت، وقد ظل الأستاذ هيكل على اتصال دائم بنازلى طوال فترة اعتقالى.

 

انتهت الزيارة بسرعة وعدت إلى الزملاء بالزنزانة 27 وأنا فى حالة من السعادة الغامرة لأنى التقيت بزوجى وعائلتى، فوجدت نزلائها قد زادوا اثنين، السيد غريب خريج طب الأسنان وأحد قيادات الفكر الناصرى بجامعة القاهرة والمقيم الآن فى إنجلترا، وحمدى يس المستشار الآن بمجلس الدولة، والذى كان بعد تخرجه من كلية الحقوق قد صدر قرار جمهورى بتعيينه بالمجلس لتفوقه، وكان يوما حزينا علينا بعد ذلك حين جاء وقت أدائه لليمين أثناء وجوده معنا بالسجن.

 

أما سيد غريب فقد كان مجندا فى ذلك الوقت، وقد روى لنا أنه كان بمعسكره بالتل الكبير مستلقيا على سريره حين سمع بنشرة الأخبار فى الإذاعة بأنه تم إلقاء القبض علىّ فهب من رقدته منفعلا بينما أخذ زملاءه يهدؤنه، وسعى لأن يحصل على إجازة للنزول إلى القاهرة، لكن الإجازات كانت ملغاة بسبب الأحداث، وحين سمح بها بعد ذلك نزل يوم 24 يناير ليفاجأ بالقبض عليه فى اليوم التالى بتهمة المشاركة فى مظاهرات يومى 18 و19 يناير.  

 

وقد رويت لهم ما نقلته لى عائلتى حول أن "التهمة لابسانى مائة بالمائة"، وحكاية صورتى وسط تلك المظاهرات التى لم أشاهدها، فأصابهم الوجوم وقال حسين عبد الرازق أن هذا يعنى أنهم سيلفقون التهم من أجل إبقائنا فى السجون.

 

لكن ما هى إلا دقائق وعمت البهجة بعد أن دعونا زملائنا من بقية الزنازين إلى المأدبة الوفيرة التى جاءت بها حماتى فى أوانى عمود الأكل الذى أصبح السجن كله ينتظره من أسبوع لأسبوع.

 

فى اليوم التالى كان ذراعى قد ازداد ورما وأخذ يؤلمنى بشكل كبير حتى من ملمس الملابس له، ولم تتم الاستجابة لطلبى زيارة العيادة، وقال لى أحد الشاويشية: "هو حد فاضى يشوف واحد إيده احتكت فى الحائط!".

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

كانت زنزانتنا بالدور الثالث بلا نور، وقد لاحظنا فى المساء وجود إضاءة فى بعض الزنازين الأخرى، وحين جاء المارشال الجابرى يسأل إن كنا نريد شيء طلبنا منه لمبة فأحضر سيد الكهربائى على الفور وركبها فأصبح لدينا الآن نور فى المساء، لكنه لم ينس، رغم أنه هو الذى كان قد أضاء لنا الزنزانة، أن يصرخ فينا قبل أن يمضى بصوت عال يسمعه رؤساءه: "ناموا بقى، الله يخرب بيوتكم".

 

كان دخول النور إلى زنزانتنا تطور غاية فى الأهمية لا يقل أهمية عن اختراع العجلة للمصرى القديم لأنه سمح لنا أن نتسامر فى المساء ونتحاور فى مختلف الموضوعات بدلا من أن نظل فى العتمة كالعميان لا نملك حرية الحركة من المغرب حتى فجر اليوم التالى، وفى ظل هذا الإختراع الجديد قررنا أن نستمع فى كل ليلة إلى واحد منا يحدثنا فى موضوع من اختياره تعقبه مناقشة مفتوحة مع بقية الزملاء، والحقيقة أن هذه الأحاديث كانت شيقة جدا ومتنوعة حسب اهتمامات كل متحدث حتى أصبح بعض الزملاء من الزنازين الأخرى يغافلون الحراس ويأتون قبل إغلاق الزنازين للمبيت معنا حتى يستمعوا لأحاديث المساء التى كانت تمتعنا وتخفف عنا عناء السجن.

 

وقد سعدت أن وجدت نازلى قد وضعت لى ضمن الملابس التى أحضرتها لى مفكرة وبعض الأقلام لعلمها بدأبى على الكتابة، وقد بدأت أدون فى تلك المفكرة تلك الأحاديث المسائية التى كان يمكن أن تصنع كتابا شيقا بعنوان "أحاديث السجن"، كما بدأت أدون بها ملاحظاتى اليومية، ولم أكن قد ملأت بها بضعة صفحات تعد على اصابع اليد الواحدة حين تعرضنا لحملة تفتيش تم خلالها التنقيب فى جميع الزنازين عن الممنوعات، والتى كان من بينها المفكرة التى كنت أعتز بها لأن زوجتى أحضرتها لى دون أن أطلبها، وقد حزنت كثيرا لذلك، وزاد من حزنى أننى فقدت ما كنت قد كتبته فيها، فأقسى شىء على الكاتب هو أن يؤخذ منه ما كتب، لكن السجانة هونوا على الموقف شارحين أن المفكرة ليست من الممنوعات التى يستوجب ظبطها تكدير السجين، وقال لى أحدهم أن هناك سجينا فى الدور الأول تم إدخاله غرفة التأديب لأن الضابط أخرج بغبغانا من وسط أشياءه، وعلمت بعد ذلك أن البغبغان هو الراديو، وهو محظور تماما فى السجن، ربما لأنه ينهى عزلة السجين وهى الهدف من عقوبة السجن التى تعزل السجين عن العالم الخارجى، وكأن السجين قد أصبح خارج الزمن وذلك شعور قاسى بالفعل، أما الراديو فيوصل بين السجين وما يحدث فى الدنيا. قال لى الشاويش: "الحمد لله إنتم لا طلع عندكم بغبغانات ولا حدايات"، ووعدنى بأن يأتى لى غدا بـ"أشِنْتة" جديدة بدلا من "الأجندة" التى تمت مصادرتها.

 

فى مساء ذلك اليوم لاحظ الزملاء اكتئابى بعض الشىء.. ومع الحلقة الثالثة غدًا..










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة