د. مجدى عاشور

تجديد التفكير الديني (9) هل حفظ النفس مُقَدَّم على الدين؟

الجمعة، 28 أكتوبر 2016 11:57 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

توافقت الأديان كلها، بل والعقول السوية والفطرة السليمة، على أن قِوَامَ حياة الإنسان البدنية والنفسية والروحية، يجب أن يحاط بالحماية والرعاية والحفظ في عدة مجالات: النفس، والعقل، والعِرْض (الكرامة)، والمِلْك، والدِّين.

وهي الجوانب التي إن وُجِدَت استحق المرء أن يكونَ إنسانًا، ليس من الناحية البيولوجية فحسب، ولكن بمعنى الإنسان الـمُكَرَّم الذي فضله الله تعالى على مخلوقاته، حيث يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[الإسراء: 70].

وقد تميز الإنسان عن سائر المخلوقات بهذه الأشياء الجوهريَّة الخمسة، بحيث إذا اختل واحدٌ منها نقص في إنسانيته، سواء فَرَّط هو في ذلك أو انتزعه منه أحد .

ولذلك أوجب النقلُ والعقلُ والطبعُ الحفاظَ على هذه الـمُقوِّمات، ونهى عن التخلي عن شيء منها، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا . وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.  وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا . وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[الفرقان: 67- 72]

وللتأكيد على هذه المقومات الحيويَّة في جوهر الإنسان، ذكرها الله عز وجل في حق النساء على الخصوص، كما ذُكرت قبل ذلك على العموم، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[الممتحنة: 12].

والأصل في العلاقة بين هذه المقاصد الخمسة هو التكامل والاتساق، وليس التعارض أو الصدام والشقاق، بل هي متممة لبعضها، آخذة بحُجَز طرف كُلٍّ منها حتى تكتمل الدائرة الكونية وتقام العبودية لله تعالى على أكمل وجه، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]، وقال عز وجل: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء: 44] .

وقد تكلَّم الفقهاءُ وعلماء أصول الفقه قديمًا وحديثًا في الترتيب بين هذه المقاصد الشرعيَّة الضروريَّة؛ لحاجة الإنسان للقيام بشئون دينه ودنياه، وللفوز بالرضا والفلاح في أخراه. وتجاذب الحديث والبحث بينهم في تقديم بعض هذه الخمسة على بعض، ولكنهم فعلوا ذلك وأكدوا أنه يتصوَّر فقط عند التعارض فيما بينها، أما في الحالات الطبيعية العادية فهي مطلوبة كلها، ولا يمكن الاستغناء عن إحداها فضلًا عن أكثرها .

والحقيقة التي لا ينبغي الغفلة عنها، هي أن هذه المجالات كلها إنما جاءت وشُرِعَتْ من أجل الحفاظ على الإنسان وتحقيق سعادته في الدارين، حتى حفظ الدين وجب لهذا أيضًا؛ إذ من مقاصده العليا أن يكون طريق بيان وهداية ليدل البشر إلى ما فيه سعادتهم البدنية والنفسية والروحية، وإلا ما فائدة وجود دين مع عدم وجود إنسان يقوم به وعقل يدركه، ومن ثَمَّ كان الحفاظ على النفس الإنسانية هو محور التكاليف الشرعية وأساس الديانات الربانية .

ويؤكد هذا المعنى تعليق أي عمل من النكاليف الشرعية ب " استطاعة الإنسان "، فحين قال الله تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران : 102]، خشي الصحابة من هذا التكليف، وتحدثوا : مَنْ يقدر على القيام بما يُكَلَّفون به على وجه التمام وبما يرضى عنه الرحمن ؟! ورأوه تكليفًا شاقًّا، فبيَّن الله سبحانه لهم المراد والمطلوب منهم في آية أخرى فقال عز وجل : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن : 16] فعلق القيام بالواجبات على القدرة والاستطاعة، رحمة منه بالإنسان وحفظًا على حياته من التلف أو الضرر، ويؤكد ذلك ما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فَأْتُوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم "(رواه البخاري ومسلم) .

ويتأكد ذلك المعنى إذا ضممنا إليه ذلك مبدأ " حرية الاعتقاد "، الذي يكفل حفظ حياة الإنسان، وإن اختلفت ديانته عن الإسلام، بمقتضى الحقيقة القرآنية في قوله تعالى : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة : 256]، وقوله سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف : 29] . 

ولذلك كان احترام النفس الإنسانية أمرًا ضروريًّا في الإسلام، سواء أكانت تلك النفس مسلمة أم غير مسلمة، ما دامت محترمة ومحافظة على نفسها وعلى غيرها، وهذا ما قرره القرآن الكريم في حق المشرك الذي لا يعرف إلهًا حقيقيًّا ولا دينًا ربانيًّا، حيث قال في المحافظة على النفس المستأمنة : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)[التوبة : 6]، فهنا لم ينظر الشرع إلى ديانته – مع شِرْكه ومخالفته – وإنما نظر إلى كينونته وآدميته، للدلالة على ضرورة حفظ حياة الإنسان، الذي جعله الله تعالى سيدًّا على سائر المخلوقات .

ولم يكتف الشرع باحترام تلك النفس حال الحياة؛ بل امتد الأمر إلى ما بعد الممات، مهما كانت ديانة تلك النفس، فقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال :
كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا : إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: " أَلَيْسَتْ نَفْسًا ؟" .إننا مطالبون بالعمل على حفظ حياة الإنسان - سواء كنا نحن المسلمين أو غيرنا من بني الإنسان الآمنين المستأمنين قضلا عمن لهم حق العيش والمواطنة معنا – كمطالبتنا بحفظ أصول ديننا وشعائر ملتنا، إذ لو غاب عنا هذا المعنى لَمَا حافظنا على شرع الديان ولا على ذلك الكائن المكرَّم المنوط به التحقق بأصول وأخلاق هذا الشرع وهو الإنسان .

وأخيرا : فإن الدين الحق حياة، والحياة لا تدمر الكائن الموصوف بالحياة؛ بل ترحمه وتنصحه وترشده وتحترمه ما دامت فيه الحياة، بل وبعد الحياة، وبعد ذلك فالكل موكول أمره إلى واهب تلك الحياة، الذي ضرب لنا المثل لبيان هذا المعنى في كتابه أظهر بيان، فقال في مَن يحافظ على حياة الآخرين : (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[المائدة : 28] .                                  










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة