سعد الدين الهلالى

الطلاق الشفوى «11»

الأحد، 22 فبراير 2015 11:51 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التصرفات والعقود لا تصح إلا إذا تحققت أصولها الثلاثة، وهى تواجد أسبابها وتحقق شروطها وانتفاء موانعها، وقد ترتب على مراعاة تلك الأصول فى عقد الطلاق اختلاف فقهى قديم فى حكم وقوعه فى مسائل عديدة اخترنا منها إحدى عشرة مسألة تفتح على الفقهاء المعاصرين باب التخريج عليها فى الحكم بعدم احتساب الطلاق الشفوى للمتزوجين بوثيقة رسمية. وقد تكلمنا عن سبع مسائل منها وهى وقوع الطلاق بغير صيغة التنجيز، والطلاق بغير نيته، والطلاق بالتوكيل أو بالتفويض، وطلاق الفضولى، والطلاق بغير إشهاد، وطلاق الغضبان، وطلاق المكره. ونتابع فيما يلى ما تيسر من تلك المسائل.
المسألة الثامنة: طلاق السكران
السكر فى اللغة نقيض الصحو، والسكران خلاف الصاحى. والعرب تقول: ذهب بين الصحو والسكرة، أى بين أن يعقل ولا يعقل. وقال تعالى: «وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» (الحج: 2)، وفى قراءة: «سكرى وما هم بسكرى»، أى أنك تراهم سكارى من العذاب والخوف وما هم بسكارى من الشراب.
وأما حد السكر فى اصطلاح الفقهاء فقد ذهب أكثرهم إلى أنه الذى يخلط صاحبه كلامه المنظوم ويكشف سره المكتوم فيأتى بما لا يعقل وبما لا يأتى به إذا لم يكن سكران، حتى وإن أتى بما يعقل فى خلال ذلك؛ لأن المجنون قد يأتى بما يعقل ويتحفظ من السلطان ومن سائر المخاوف. وذهب الإمام أبوحنيفة والمزنى من الشافعية إلى أن حد السكر يختلف فى باب العقود والتصرفات عنه فى باب الحدود والعقوبات. أما فى باب العقود والتصرفات فلا يختلف عن تعريف الجمهور سالف الذكر، وأما حد السكر فى باب الحدود والعقوبات فيشترط لتحققه نشوة تزيل العقل بالكلية بحيث لا يعرف السماء من الأرض ولا الرجل من المرأة. واختلف الفقهاء فى حكم طلاق السكران على مذهبين.
المذهب الأول: يرى أن طلاق السكران لغو باطل وهو فى حكم العدم، سواء أكان السكران متعديًا بسكره وعاصيًا بذنبه أم كان السكران معذورًا بسكره كالمخطئ أو المغلوب على أمره. وهو قول عند الحنفية اختاره الطحاوى والكرخى، وقول عند الشافعية اختاره المزنى، ورواية عند الحنابلة اختارها أبوبكر عبدالعزيز، وهو مذهب الظاهرية والإمامية، وروى عن عثمان بن عفان، وبه قال عمر بن عبدالعزيز وطاوس وربيعة شيخ الإمام مالك والقاسم بن محمد والليث بن سعد وغيرهم. وحجتهم: «1» أن السكران لا تصح منه الصلاة فكذلك لا تصح منه العقود والتصرفات، ويدل على عدم صحة صلاة السكران قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» (النساء: 43). يقول ابن حزم فى «المحلى»: فبين الله تعالى أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن خلط فأتى بما يعقل وما لا يعقل فهو سكران؛ لأنه لا يعلم ما يقول. ومن أخبر الله تعالى أنه لا يدرى ما يقول فلا يحل أن يلزم شيئًا من الأحكام لا طلاقًا ولا غيره؛ لأنه غير مخاطب فليس من ذوى الألباب. «2» أن السكران غائب العقل، فكان حكمه كالمجنون الذى رفع عنه القلم فيما أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذى وصححه الحاكم عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق». «3» أن عدم اعتبار طلاق السكران هو قول بعض السلف منهم عثمان بن عفان وعمر بن عبدالعزيز ممن لا يكون ذلك منهم إلا عن توقيف؛ لحسن الظن بهم فوجب العمل بقولهم. ومن هذه الأقوال ما رواه ابن حزم فى «المحلى» بسنده، أن عمر بن عبدالعزيز أتى بسكران طلق امرأته فاستحلفه بالذى لا إله إلا هو لقد طلقها وهو لا يعقل، فحلف، فرد إليه امرأته وضربه الحد. «4» ويدل على أنه لا فرق بين زوال العقل بمعصية أو زواله بغير معصية فى أحكام التصرفات ما ذكره ابن حزم فى «المحلى» من أن من كسر ساقيه متعمدًا بالعدوان على نفسه جاز له أن يصلى قاعدًا، وأن المرأة لو ضربت بطن نفسها عدوانًا فنفست سقطت عنها الصلاة.
المذهب الثانى: يرى التفريق فى طلاق السكران بين أن يكون سكره بمعصية فنحكم بوقوع طلاقه وصحته، وبين أن يكون سكره بغير معصية كالمخطئ والمغلوب على أمره فنحكم بعدم وقوع طلاقه أو بطلانه. وهو مذهب جمهور الفقهاء قال به أكثر الحنفية وهو مذهب المالكية والأظهر عند الشافعية ورواية عند الحنابلة اختارها أبوبكر الخلال والقاضى، وروى عن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبى سفيان، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصرى وابن سيرين والشعبى والنخعى والثورى. وحجتهم: «1» أن الصحابة جعلوا السكران المتعدى بسكره كالصاحى فى الحد بالقذف فيأخذ حكمه فى وقوع الطلاق. ويدل على إلحاق السكران المتعدى بالصاحى فى الحد بالقذف ما أخرجه الدارقطنى والحاكم وصححه عن وبرة الكلبى قال: أرسلنى خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب، فأتيته وهو فى المسجد معه عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير رضى الله عنهم، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلنى إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا فى الخمر وتحاقروا العقوبة؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم؟ فقال على بن أبى طالب: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفترى ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين. وكان عمر إذا أتى بالرجل القوى المنهمك فى الشراب جلده ثمانين، وإذا أتى بالرجل الضعيف التى كانت منه الزلة جلد أربعين. ثم جلد عثمان ثمانين وأربعين. «2» أن عمر بن الخطاب أوقع طلاق السكران المتعدى بسكره، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعًا. ويدل لذلك ما رواه ابن حزم فى «المحلى» بسنده عن يحيى بن عبيد عن أبيه، أن رجلًا من أهل عمان تملّأ من الشراب فطلق امرأته ثلاثًا فشهد عليه نسوة فكتب إلى عمر بذلك؟ فأجاز شهادة النسوة وأثبت عليه الطلاق. وفى رواية أخرى عن أبى لبيد أن رجلًا طلق امرأته وهو سكران فرفع إلى عمر بن الخطاب وشهد عليه أربع نسوة ففرق عمر بينهما. «3» أن المغلوب على أمره بالسكر كالمخطئ والمضطر معذور شرعًا؛ لما رواه ابن ماجه والحاكم والدارقطنى بسند فيه مقال عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». أما المتعدى بسكره فليس له عذر شرعى فاستحق أن نجرى عليه طلاقه رغم غياب عقله عقابًا له؛ لأن المعتدى لا يستحق الرأفة لعموم قوله تعالى: «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» (البقرة: 190).
المسألة التاسعة: الطلاق بلفظ الثلاث. وللحديث بقية








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة