سعد الدين الهلالى

الطلاق الشفوى «5»

الإثنين، 12 يناير 2015 11:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الطلاق الشفوى للمتزوجات رسميًا لا يرتب أثرًا شرعيًا بشأن إخلاء سبيل الزوجة بعد اسيفاء العدة المقررة، بل تظل هذه المطلقة شفويًا مرهونة على ذمة زوجها حتى يصدر لها وثيقة الطلاق الرسمية التى من تاريخها تبدأ المطلقة السير فى آثار الطلاق الشرعية مما يجعل الحكم بوقوع الطلاق الشفوى محل نظر. وقد التزمنا فى هذه الدراسة تتبع الأساسيات التى توقفنا على نتيجة مرضية فى الحكم على الطلاق الشفوى، وتكلمنا عن أربعة عناصر من تلك الأساسيات، ونبدأ الحديث عن العنصر الخامس كما يلى.
خامسًا: أصول وقوع الطلاق
الطلاق شأن سائر التصرفات لا يحتسب إلا إذا وقع بأصوله الثلاثة المعتبرة، وهى وجود أسبابه وتحقق شروطه وانتفاء موانعه التى تعرف فى علم «أصول الفقه» بالحكم الوضعى أو الجعلى الذى هو «خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشىء سببًا فى شىء آخر، أو شرطًا له، أو مانعًا منه». ونوضح تلك الأصول الثلاثة فيما يلى:
«1» أما السبب فقد عرفه القرافى «ت 684هـ» فى «الفروق» بأنه: «ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته». ومثاله فى الطلاق صدور صيغته على الوجه المعتبر عند الناس، حيث يلزم من وجود تلك الصيغة وجود الطلاق كما يلزم من عدمها عدمه. فإذا صدرت صيغة الطلاق على وجهها المعتبر فى نظر الفقيه فإنه سيحكم بأنها سبب للحكم به. أما إذا صدرت صيغة الطلاق على غير هذا الوجه فإن الفقيه لن يراها سببًا للحكم بوقوع الطلاق، وسيحكم بأنها لغو، كما لو صدرت من مجنون أو من مغلوب على عقله.
«2» وأما الشرط فقد عرفه القرافى بأنه: «ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته». ومثاله فى الطلاق وجود علاقة الزوجية أو ولاية التطليق، حيث يلزم من عدم الزوجية ومن عدم ولاية التطليق عدم وجود الطلاق، ولا يلزم من وجود علاقة الزوجية أو وجود ولاية التطليق وجود الطلاق. فإذا لم توجد علاقة الزوجية أو لم توجد ولاية التطليق فى نظر الفقيه فقد انعدم عنده شرط وجود الطلاق مما لا يجوز معه الحكم بوقوعه.
ومن أمثلة شروط صحة الطلاق أيضًا وجود النية لحل رباط الزوجية عند التلفظ به ولو بصريح العبارة عند الظاهرية، لارتباط العقود بمقاصدها، خلافًا للجمهور الذى يرى صراحة العبارة مغنية عن النية.
«3» وأما المانع فهو عكس الشرط، وقد عرفه القرافى بأنه: «ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته»، ومثاله فى الطلاق وجود الحيض أو المس فى الطهر الذى يراه الظاهرية وابن تيمية وابن القيم مانعًا من إيقاع الطلاق، وهو المعروف بالطلاق البدعى، حيث يلزم من وجود هذا المانع فى نظرهم عدم الطلاق، ولا يلزم من عدمه وجود الطلاق ولا عدمه.
ومن أمثلة موانع الطلاق أيضًا وجود حال الغضب المغيرة لوضع الزوج عن عادته بحيث لو كان فى حال اعتداله لما طلق، وهذا عند ابن تيمية وابن القيم، واشترط الجمهور لعدم وقوع طلاق الغضبان شدة الغضب لدرجة الهذيان واختلاط الكلام.
وبهذا يتضح أكذوبة الحكم بوقوع كل ألفاظ الطلاق، استنادًا إلى حديث ما يمكن تسميته بعد توسع الفقهاء فى تطبيقه بأنه «سيف الأسر»، وهو ما أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذى بإسناد حسن وصححه الحاكم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة». فهل يهدم هذا الحديث أصول العقود والتصرفات التى تقوم على أسبابها وشروطها وانعدام موانعها، أم يجب عند تطبيق هذا الحديث أن يكون فى ظل تلك الأصول الثلاثة «وجود السبب، وتحقق الشرط، وانعدام المانع؟» إذا أردنا الانتصار لأصول المعاملات فليس أمامنا فى تفسير هذا الحديث إلا أن نقول إنه إذا وقع أى عقد من «النكاح أو الطلاق أو الرجعة» على وجهه المعتبر عند الناس بوجود سببه وتحقق شرطه وانعدام موانعه فإننا نحكم بصحته حتى لو كان على وجه اللعب أو الهزل، كمن يريد مفاجأة زوجته فقدم لها مظروفًا بداخله وثيقة رسمية بطلاقها معتمدة من الجهات المعنية وبتوقيعه، فهنا نحكم بوقوع الطلاق حتى ولو كان تصرف هذا الزوج على وجه اللعب أو الهزل. أما إذا انعدم سبب الطلاق، أو تخلف شرط من شروط صحته، أو وجد مانع من موانع الحكم بصحته فهو والعدم سواء حتى ولو وقع لفظه بالجد لا بالهزل. وهذا هو الفقه الذى يحفظ الأسر من الضياع الذى يسببه أصحاب الفتاوى الطائشة الموهومون بحاكمية حديث «ثلاث جدهن جد» على الأصول المرعية فى العقود والتصرفات من ضرورة انضباطها بالأحكام الجعلية الثلاثة «السببية والشرطية والمانعية».
ونظرًا لبناء الفقه على الاستنباط البشرى فقد تعددت الرؤى فيه، وكلها توصف بالصواب الذى يحتمل الخطأ؛ لانفراد الله تعالى بعلم الغيب، ولم يشفع لهذه التعددية قصر حق الاستنباط على المجتهدين أو المؤهلين، لتعدد مناهج الاستنباط، وتفاوت مراتب المجتهدين. وقد ترتب على ذلك إلزام المجتهدين ومتبعيهم بالتواضع أمام الرأى المخالف، والتزام الجميع بالقاعدة الفقهية: «لا إنكار فى المختلف فيه»، مما يجعل الناس فى سعة من الأحكام، كما أخرج ابن عبدالبر فى: «جامع بيان العلم وفضله» عن عمر بن عبدالعزيز قال: «ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس فى ضيق وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان فى سعة».
وسوف نعالج إحدى عشرة مسألة فى الطلاق تظهر التزام الفقهاء بأصوله من السببية والشرطية والمانعية، مع تفاوتهم فى التطبيق بما يعدد أقوالهم فى المسألة الواحدة لتكون سعة للناس فى الاختيار من دون ترهيب أو ترغيب أو تشكيك لصالح قول معين على حساب الآخر، إلا أن يقع فى قلب المتلقى موقع قبول، وهذه المسائل التى نعتزم بيانها الفقهى بإذن الله تعالى هى: الطلاق بغير صيغة التنجيز، والطلاق بغير نيته، والطلاق بالتوكيل، وطلاق الفضولى، والطلاق بغير الإشهاد، وطلاق الغضبان، وطلاق المكره، وطلاق السكران، والطلاق بلفظ الثلاث، والطلاق البدعى، وطلاق القاضى للضرر.
«1» الطلاق بغير صيغة التنجيز «المضاف والمعلق».
صيغة الطلاق الصحيحة هى سبب الحكم بإيقاعه والنطق بحل رباط الزوجية وترتب آثار هذا الحل من العدة وغيرها، والأصل فى الطلاق إذا أراده الزوج إرادة حقيقية أن يوقعه منجزًا، لأن التنجيز هو الطريق المستقيم المختصر لإبرام العقود والوصول إلى الأشياء، والطلاق المنجز هو الذى يرتب سبب الفرقة فى الحال، ويعقبه أثره بدون تراخ، وصورته أن يصدر الزوج صيغة الطلاق مستوفية شروطها ومنتفية عن موانعها مثل أن يستخرج وثيقة رسمية معتمدة من الجهات المعنية تشهد بأنه أصدر تعبيره الصريح بطلاق زوجته «فلانة» وفق الشروط المعتبرة، ومثل أن يقول الزوج المتزوج عرفيًا لزوجته العرفية «أنت طالق» مع تحقق سائر شروط وقوع الطلاق وانتفاء موانعه.
وإذا وقعت صورة الطلاق بغير صفة التنجيز فإنها إما أن تكون مضافة وإما أن تكون معلقة، وللفقهاء فيهما تفصيل نوجزه فيما يلى.. وللحديث بقية.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة