محمد أبو حامد

حقيقة مأساة إبليس الوهمية

الخميس، 01 يناير 2015 11:28 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ذكرنا فى المقال السابق قصة أسئلة إبليس السبعة، وقلنا إن هذه القصة كان لها تأثير واضح على الفكر الإنسانى، سواء الدينى أو الفلسفى أو الأخلاقى، فهى ترتبط بركن الإيمان الأعظم فى جميع الأديان السماوية، وهو: الإيمان بالله وكماله وقضائه وقدره، كما أنها ترتبط بقضية الصراع بين الخير والشر، وقد حاول إبليس جاهدا فى هذه القصة أن يثبت أن وقوع المعصية منه بعدم السجود لآدم كان بتقدير الله عز وجل ومشيئته، حتى يوهم بأنه كان ضحية التمزق بين المشيئة والأمر، وأن جزاء الله عز وجل له بالطرد من رحمته وتخليده فى النار متعارض مع العدالة الإلهية المطلقة، وسوف نبدأ مناقشة هذه القصة من تلك المأساة المزعومة لإبليس ونقول: إن المشيئة الإلهية فى حقيقتها لا ترد وهى نافذة فى جميع الأحوال، وبالتالى فإنها لن تتوقف على إبليس وتفاعله مع الأمر الصادر، لن يعليها ويثبتها أن يتصرف بشكل، ولن يهدمها أن يتصرف بشكل آخر، وبالتالى من غير المنطقى إذن أن يتوهم من يدّعى مأساة إبليس أن المشيئة بحاجة إليه يثبتها إن عصى الأمر ويهدمها إن أطاعه، فلا مكان لفكرة التمزق بين المشيئة والأمر وادعاء أن إبليس ضحى بنفسه فى سبيل إعلاء هذه المشيئة، فالمشيئة الإلهية فى دائرة قدرة الله المطلقة ومن غيبه المحجوب لن يغيرها مخلوق عصى أم أطاع، وهى ليست واجباً فكونها غيبا محجوبا يخرجها عن دائرة الاختبار التى تقتضى مقومات الفاعلية الثلاثة، وهى: الإرادة المختارة والاستطاعة والعلم التى يصبح بها المخلوق مسؤولا عن أفعاله ويكون مستحقا للجزاء، وما لا يكون فى متناول الاختيار، فإنه لا يوصف بالواجب، فالواجب: هو التزام واع يقوم على الاختيار، وبما أن الأمر هو الصلة الوحيدة بين الخالق والمخلوق، وبما أنه يقع فى دائرة وعى المخلوق ويتعرض لعملية اختياره فإن طاعة الأمر هى الواجب المطلق، وهى التعبير الوحيد للمخلوق عن تسليمه لخالقه وإيمانه به واعترافه بهيمنة مشيئته، والحكم الأخلاقى من جانبنا نحن المخلوقين على المخلوق إبليس لا يمكن أن يقاس إلا بمقياس أدائه لهذا الواجب المطلق الذى يتمثل بدوره فى طاعة الأمر والتسليم له.
أما الحكم من جانب الله كما ورد فى القرآن على إبليس بالطرد واللعن فهو لم يترتب على عصيان إبليس للأمر فقط، أو لمجرد أنه سأل عن حكمة الأمر بقوله: (أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟ أو ظنه أن هذا سجود لغير الله كما ادّعى البعض بذكر قوله لا أسجد إلا لك)، فهذا غير صحيح فالملائكة أيضا سألوا نفس السؤال ولكن بطريقة أخرى كما ورد فى سورة البقرة آية 30: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»، فالله تعالى أجابهم جميعاً بقوله: إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، إلا أن إبليس رفض وتكبر وأبى السجود وطاعة أمر خالقه، بينما الملائكة سكتوا ثم سجدوا طاعة لأمر خالقهم، والحقيقة أن لعن وطرد إبليس من رحمة الله إنما ترتب على تشكيك إبليس فى صواب أمر الله واستكباره على حكمته، فقال معترضا على أمره له بالسجود لآدم عليه السلام كما ورد فى سورة الأعراف آية 12: «قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ»، وفى سورة الحجر آية 33: «قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ»، فعاب إبليس على الله أن يأمره بالسجود لآدم عليه السلام، وظن متكبّرا أنه أفضل منه لمجرد أن آدم خلق من طين وأن المفاضلة بينه وبين آدم مفاضلة بين نار وطين، متجاهلاً أن الإنسان ليس إنساناً بطينه وإنما بالنفخة السامية من روح الله، فإبليس خَطَّأَ الله تعالى وجحد صواب حكم الله وكفر به، وسواء آمن من يدّعون مأساة إبليس أو جحدوا فتلك قضيتهم الشخصية، ولكنهم اضطلعوا بمناقشة فكرة الإله فلسفيا، فبالضرورة الفلسفية لا يمكن أن نفترض فى الإله الخطأ، ولا يمكن أن نعرض الإله لعملية تحليل نفسى لنجد لأمره المبررات والدواعى لأننا حال نفعل ذلك فإنه لا يصير إلهاً ولا خالقاً، وإنما نصبح نحن الخالقين وهذا يعارض الفرضية الأولى التى بنوا عليها مأساة إبليس المزعومة.
هذا ومن المعروف أن إبليس من الجن الذى له حرية الاختيار فى العبادة، ورفعه الله مع الملائكة لأنه كان فى وقت سابق لهذا الأمر لا يعصى الله ما أمره ويفعل ما يؤمر، ولكن عند منعطف هذا الاختبار ومعرفة أن هناك مخلوقاً آخر يمكن أن يكون أفضل منه، أحرقته نار الغيرة وملئ قلبه الغرور قال تعالى فى سورة الكهف آية 50: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ»، إذن فمن وسوس لإبليس أن يعصى ربه ومن يتحمل المسؤولية؟ والإجابة المباشرة أننا لا نعرف خلقاً آخر لنقول إنه الذى وسوس لإبليس، فإبليس أيها القارئ الكريم لم يوسوس له أحد وهو فعل ذلك من نفسه، نعم (نفس) إبليس هى من وسْوست له، وبالتالى هو من يتحمل المسؤولية عن تكبره على أمر الله ومعصيته إياه، وبعد أن وسْوست له نفسه وضللته احترف مهنة الوسوسة ليوسوس فى صدور الناس.
ولا يصح أيضاً أن نقول إن معصية آدم كانت موافقة لإرادة الله من منطق أنه لا يحدث شىء إلا بإرادة الله وأمره، فكلمة شىء تشمل الشرور والجرائم والمظالم، فهل هذه كلها بأمره؟ حاشا لله، إن الله كله رحمة وكله خير ولا يأمر أبداً بالشر قال تعالى فى سورة الأعراف الآيتان 28 و29: «وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ»، فالله لا يريد إلا الخير، فكل الخير الذى يتم على الأرض، للناس، أو من الناس، إنما يتم بإرادة الله، لكن لأن الله أرادنا أحراراً والحرية اقتضت وقوع الخطأ فلا معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة والخطأ والصواب، والاختيار الحر بين المعصية والطاعة فالشر كما يقولون قرين الحرية، بالتالى فإن الله الذى أعطى بعض مخلوقاته حرية إرادة، يسمح لهم بأن يفعلوا ما يشاءون خيراً كان أم شراً، فالخير الذى يفعلونه بإرادة الله، والشر الذى يعملونه إنما يكون بسماح من الله وليس بإرادته، فمعصية إبليس كانت بسماح من الله يتفق مع حرية الإرادة التى وهبها الله له، فإبليس هو من حوّل نفسه بإرادته هو إلى الشر.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة