أحمد الجمال

مولانا جلال الدين الرومى وقراءة الشيخ الضرير فى المصحف

الأربعاء، 24 سبتمبر 2014 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هذه المرة أستأذن أصحاب الشأن فى «اليوم السابع» أن أترك المساحة لكاتب آخر ليس ككل الكتاب، وليس مثله كل الآخرين!

فلقد حاولت أن أعرفه منذ سنين طويلة، وكلما اقتربت منه ازددت نهمًا من أجل مزيد من الاقتراب، وعندما جاء التيسير علمت أنه إشارة «الإذن»، عندما تيسر لى أن تدعونى ابنتى الكبرى لزيارة تركيا على حسابها سفرًا وإقامة!، وذهبت بصحبتها وأختها وأخيها.. وفى إسطنبول قلت راجيا: إن لى صديقا قديما هنا فى تركيا وودت لو تمكنت من زيارته إذا سمحتم، وذكرت العنوان وهو مدينة قونية! وفى اليوم نفسه فوجئت بمريم تبرز بطاقات السفر لأربعة، وفى الفجر توجهنا إلى هناك واستغرقت المسافة خمسين دقيقة طيرانا!

وذهبنا إليه، ودخلنا حديقة الورد البلدى قانى الحمرة.. وفى حضرته حفنى النور وانشرح الصدر، ووقفت أقرأ ما اعتقدت وجوب قراءته فى حضرته، وكلنا بين يدى الله سبحانه وتعالى.

السطور التالية هى لمولانا جلال الدين الرومى من الكتاب الثالث للمثنوى، وهى تحكى قصة قراءة الشيخ الضرير فى المصحف، وهو أمامه وعودة إبصاره إليه وقت القراءة: «رأى ذلك الشيخ الفقير فى الأيام السالفة، مصحفا فى منزل شيخ ضرير، كان ضيفا عليه فى هجير أيام تموز واجتمع الزاهدان عدة أيام، فقال لنفسه: عجبا؟ لماذا يوجد المصحف هنا؟ مادام هذا الدرويش الصادق ضريراً!!

وزاد تفكرا من هذا التساؤل، إذ لم يكن سواه فى ذلك المكان رائح أو غاد، إنه وحيد وقد وضع مصحفا «فى صومعته»، وأنا لست بالمجترئ على السؤال أو المختلط عليه، حتى أوجه إليه السؤال، لا، صمتا ولأصبر، حتى أصل إلى مرادى بالصبر. فصبر، وظل فترة فى حرج، ثم انكشف له الأمر، فالصبر مفتاح الفرج.

فصبر الرجل الضيف، وفجأة انكشف أمامه حل المشكل فى لحظة، ففى منتصف الليل سمع صوت «تلاوة القرآن»، فاستيقظ قافزا من النوم وشاهد تلك العجائب، كان الأعمى يقرأ من المصحف قراءة صحيحة، فنفد صبره وسأله عن سر «ذلك الحال»، وقال له:

عجبا، كيف وأنت ذو عين ضريرة تقرأ؟ وكيف ترى السطور؟ إنك تقع «ببصرك» على ما تقرأ، وتقع يدك على كلماته؟ وأصبعك فى حركتها «على السطور»، تبين أنك تركز بصرك على الألفاظ؟
فأجابه: يا من صرت مفصولا من جهل الجسد، هل تتعجب فى هذا من صنع الله؟ لقد طلبت من الحق ودعوته قائلا: يا مستعان إننى حريص على التلاوة حرصى على الروح. ولست بالحافظ فهب عينى نورا عند القراءة بلا أشكال، ورد علىّ بصرى عندما أحمل المصحف حتى أقرأ عيانا؟ فهتف بى هاتف من الحضرة قائلا:

يا رجل العمل، يا من أنت راجيا فينا عند كل ألم، إن عندك حسن الظن والأمل الحلو الذى يقول لك فى كل لحظة ارتفع واسم. فعندما تريد أن تقرأ، أو تحتاج إلى التلاوة من المصحف سوف أرد عليك بصرك فى تلك اللحظة، حتى تقرأ يا أيها الجوهر العظيم.
وهكذا حدث، وكلما فتحت المصحف، وطفقت أقرأ، فإن ذلك العظيم الخبير الذى لا يغفل عن أمر، وذلك الملك الكريم رب العباد. يهبنى بصرى ثانية ذلك المليك الفرد فى نوره، ويصبح كأنه مصباح السارى، ولهذا السبب لا يكون عند الولى اعتراض، وذلك أن كل ما يأخذه «الله» يرسل عوضا عنه، فإن احترقت حديقتك يهبك كرمة، وفى قلب المأتم يهبك عرسا، فيعطى ذلك الأكتع الذى لا يد له يدا، ويهب منجم الهموم قلبا سعيدا.
لا، إننا نسلم وقد ذهب عنا الاعتراض، ما دام العوض يأتى عن هذا المفقود عظيما، وما دامت الحرارة تصل إلينا دون وجود نار فنحن راضون، حتى ولو جذبتنا النيران. وما دام يهبك نورا دون مصباح، فلماذا تجأر بالشكوى إذا ضاع مصباحك؟

وفى موضع آخر يروى الرومى قصة الرجل الذى طلب من موسى عليه السلام تعلم لسان الدواب والطير. ويقول فى ذلك: «قال الله تعالى لموسى: أعطه ما يلزمه فحسب، وأطلق يديه فى الاختيار، والاختيار هو ملح العبادة، وإلا لدار الفلك بالرغم منه، فإن دورانه لا طمعا فى ثواب أو خوفا من عقاب، ضع السيف فى يد «المرء» وخلصه من عجزه، فإما يصير غازيا أو قاطع طريق.
ثم يعرج الرومى على ما حدث بين موسى عليه السلام وبين الرجل، وكيف نصحه موسى بحب وقال له: إن مرادك هذا سوف يرتد عليك وسوف يفضحك، فاترك هذا الهوس واتق الله، فقد أعطاك الشيطان درسا ليمكر بك.

قال الشباب: يكفى نطق الكلاب، فالكلب حارس الباب، ونطق الطائر الداجن ذى الجناح، قال له موسى: هيا، ها أنت ذا تعلم فامض، لقد وصل إليك «ما طلبت».

فى الصباح وقف الرجل لكى يمتحن الأمر، منتظرا على عتبة داره، ونفضت الخادمة السفرة فسقط منها فتات الخبز البائت من بقايا الطعام، فاختطفها ديك كأنها غنيمة له، قال الكلب له: لقد ظلمتنى فامض، إنك تستطيع أن تلتقط حبوب القمح فى حين أنى عاجز عن أكل الحبوب فى الدار.

إنك تستطيع أن تأكل القمح والشعير وبقية الحبوب، وأنا لا أستطيع ذلك أيها الطروب، إن هذه اللقمة من العيش هى كل مئونتنا من العيش، فحتى هذا القدر هل تختطفه من الكلاب؟

فقال له الديك: اسكت ولا تغتم، فإن الله سوف يعوضك عن هذا «الفتات» بخير منه، إن جواد هذا السيد سوف ينفق، وكل غدا حتى تشبع، وكفاك حزنا، أليس موت الجواد عيدا عند الكلاب، بحيث يكون رزقا وافرا دون جهد وكدح، وعندما سمع الرجل باع الجواد، فصار ديكه خجلا أمام الكلب.

وفى اليوم التالى اختطف الديك فتات الخبز أيضا، وأطلق عليه الكلب لسان عذله، قائلا له: أيها الديك المخادع، إنك ظالم كاذب محتال، أين الجواد الذى قلت: إنه سوف ينفق، أيها المنجم الأعمى المحروم من الصدق.
فقال له ذلك الديك العارف، لقد نفق الجواد لكن فى مكان آخر، لقد باع الجواد ونجا من الخسارة، وألقى بخسارته على «كواهل» الآخرين، لكن بغله سوف ينفق غدا، وتكون هذه النعمة مقصورة على الكلاب، فباع البغل سريعا ذلك الحريص، ووجد مهربا من الحزن والخسران من فوره.
وفى اليوم الثالث قال الكلب لذلك الديك: يا أمير الكاذبين يا من دقت الطبول والكؤوس «إعلانا بكذبك»، قال: لقد باع البغل سريعا، وغدا سوف يصاب غلامه، وعندما يموت ذلك الغلام، فإن أهله سوف يوزعون الخبز على الكلاب والسائلين، فسمع هذا وباع غلامه، ونجا من الخسارة وتهلل وجهه، وأخذ يؤدى الشكر ويبدى السرور قائلا: لقد نجوت من ثلاث كوارث فى زمن وجيز، ومنذ أن تعلمت لغة الدجاج والكلاب، تخطت عينى سوء القضاء.
فى اليوم التالى قال ذلك الكلب المحروم: أيها الديك المخرف أين حساباتك هذه التى تحدثت عنها؟ حتام كذبك ومكرك آخر الأمر، فلا يطير من كنك سوى الكذب، قال: حاشانى وبنى جنسى أن نمتحن بالكذب، ونحن الديكة ما دمنا المؤذنين الصادقين، لقد مات غلامه ذاك عند مشتريه، وصار بأجمعه خسارة على المشترى.
لقد استطاع أن يهرب ماله لكنه سفك دمه فانتبه إلى ذلك جيدا، فخسارة واحدة تكون منعا لخسارات عديدة، لكنه سوف يموت فى الغد على وجه اليقين، وسوف يذبح وارثه فى مأتمه بقرة، سوف يموت رب الدار ويمضى، وغدا تحصل على قطع اللحم الضخمة، ولقيمات الخبز والزلة «قطع اللحم» والطعام، سوف يجدها وسط الشارع الخاص والعام، ولحم البقرة المذبوحة والفطائر الرقيقة، سوف تنصب فى يسر على الكلاب والسائلين، إن موت الجواد والبغل وموت الغلام، كانت فداء من القضاء لهذا الغر الساذج.
ثم يمضى الرومى فى تبيان ما حدث من قصة الرجل فيقول: «عندما استمع هذا الحديث انطلق مسرعا قلقا مضطربا وذهب إلى باب كليم الله موسى، وأخذ يمرغ وجهه فى ترابه من الخوف، قائلا: أغثنى يا كليم الله، فقال له: اذهب وبع نفسك وانج، وما دمت قد أصبحت أستاذا فاقفز من هذه الورطة، وإننى أرى فى لبنة هذا القضاء الذى ظهر لك عيانا فى المرآة، أن العاقل يرى العاقبة منذ البداية بقلبه، ومن يراها فى آخر الأمر فهو مقل فى المعرفة».








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

محمود عابد

الله عليك , مقالك رائع استفدت منه كثيرا

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة