سعد الدين الهلالى

هل يمكن إدارة الدولة القانونية بالفتاوى؟

الإثنين، 12 مايو 2014 09:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الفاشية نظام يقوم على التسلط أو احتكار الرأى ورفض الآخر تحكمًا، والكهنوت نظام يقوم على احتكار دين الله والتكلم باسمه وزعم العلم ببواطن الأمور من الحقوق المطلقة أو الباطل المطلق، وأصحابه يطلقون على أنفسهم «رجال دين» وليس رجال العلم فى الدين.

وتتسم الفاشية الدينية أو الكهنوت الدينى بالضعف فى إدارة شؤون الناس، ولهذا يفضل الكهنة الدينيون فى سبيل ضمانهم للمكاسب المادية والأدبية أن يديروا شؤون البلاد والعباد من الباطن بالفتاوى الدينية، وحتى لا يزاحمهم أحد فيها، فإنهم إما ينتهجو منهج المزايدة بالتشدد فى الفتوى، أو أن يتهموا مخالفيهم بالكفر أو بالفسق أو بالعلمانية ونحوها؛ حتى تخلو لهم كلمة الفصل الدينية وكأنهم وكلاء الله فى الأرض، أو أنهم الأوصياء والأمناء على الدين دون غيرهم، وليس كما تعلمنا فى الأزهر من أهل العلم الأبرياء جيلًا بعد جيل فى المذاهب المشهورة أن كل إنسان مؤتمن على دينه، وأن دور الفقيه أو المفسر هو البيان لما يعلم كما قال سبحانه: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» (النحل:44)، وما أخرجه ابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». ثم على كل إنسان بعد اطلاعه على أقوال أهل العلم المختلفة أن يختار دون ترهيب أو ترغيب، إلا بما يمليه عليه قلبه المؤمن؛ لما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: «البر ما اطمأنت إليه النفس واستراح إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس وتردد فى الصدر. يا وابصة استفت قلبك استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك».

ولا يكتفى الفاشيون أو الكهنة الدينيون باحتكار الفتوى فى الأوساط الشعبية، فهذا يحقق لهم الانفراد والخصوصية، ولكنه قد لا يحقق لهم السيطرة على عقول الناس وسوقهم إلى ما يشتهون، فابتدعوا فكرة قدسية الفتوى، وزعموا أنها الكاشفة لمراد الله عز وجل قطعًا، ووصفوها بالشرعية كما وصفت آيات الله تعالى بالشرعية؛ لإجبار الناس أدبيًا على الانصياع للفتوى بحكم ما جبلوا عليه بالفطرة الدينية، وبهذا يضمنون مع انفرادهم بالفتوى انسياق الناس لهم فيها، ويتحقق ما يريدون من إدارة شؤون البلاد والعباد من الباطن؛ حتى تجد إدارة الدولة المدنية نفسها أمام قوانين ولوائح مهجورة، وأمام قضاء لا يعمل لانصراف الناس عنه إلى الفتاوى الدينية بما يعظم شأن الكهنة، ويجعل إدارة الدولة المدنية مجبرة على الركوع لإملاءاتهم بهذا الظهير الشعبى المسروق باسم الدين، كما رأينا ذلك فى تجربة حكم الإخوان فى مصر عام 2012م والتمهيد له على مدار ثمانين عاما سابقة. إنهم وغيرهم لم يكونوا صادقين عندما زعموا الصواب المطلق لفتاواهم، أو عندما زعموا الخطأ المطلق للفتاوى المغايرة لاختياراتهم، ولم يتعظوا بقول الإمام الشافعى الذى لا يشق له غبار فى علمه: «قولى صواب يحتمل الخطأ وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب». كما كان الإمام الشافعى يرفض من تلامذته أن يتبعوه دون تدبر أو تعقل؛ حتى يخلى مسؤوليته – بعد أن رأى حب الناس له – أن يتخذوه كاهنًا دينيًا، فقال للمزنى، كما ذكره الدهلوى فى «حجة الله البالغة»: «يا أبا إبراهيم لا تقلدنى فى كل ما أقول، وانظر فى ذلك لنفسك فإنه دين»، وعن أبى يوسف وزفر وغيرهما أنهم قالوا: «لا يحل لأحد أن يفتى بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا». وقال الإمام أحمد لرجل: «لا تقلدنى ولا تقلدن مالكًا ولا الأوزاعى ولا النخعى ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا الكتاب والسنة». كما أن هؤلاء الأوصياء أو الكهنة قد كذبوا عندما نسبوا اجتهادهم وفتاواهم للدين مباشرة، مع تحذير القرآن الكريم فى قوله: «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» (النحل:116)، وتحذير النبى صلى الله عليه وسلم كل المجتهدين أن ينسبوا اجتهادهم للشرع مباشرة، فقد أخرج مسلم من حديث بريدة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يوصى أمراءه بقوله: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا».
الفقهية إلى الحق المطلق.

كان لمكر الأوصياء أو الكهنة الدينيين فى نسبة رؤيتهم الفقهية إلى الحق المطلق ونسبة أقوال مخالفيهم إلى الباطل المطلق أن ابتدعوا «تهمة الفتاوى المضللة» لكل من خالفهم حتى يستثيروا المجتمع عليها، ويتمكنوا من التخلص من كل ما ينغص عليهم الانفراد بالسلطة الدينية والتسلط على عقول الناس بالكهنوت الدينى، مع أن الضلال الحقيقى فى الفتوى هو تسويقها على أنها الصواب المطلق وما يخالفها هو الباطل المطلق، أو إظهارها على أنها حكم الله قطعًا وليست رؤية فقهية من أصحابها؛ لمجرد صدورها من شخص بعينه غير معصوم، أو من جهة بشرية بعينها بدون حجج مقنعة لمن يتلقاها، وليس الضلال فى حرية الاجتهاد والإبداع الثابتين فى نصوص القرآن والسنة، والمكفولين فى الدستور المصرى الجديد وأكثر دساتير العالم المتحضر، طالما استطاع المجتهد أن يظهر دليله وبراهينه، ولا يقال: إن تعدد الآراء الفقهية يلبس على العامة دينهم مما يقتضى على من يتصدى الفتوى أن يختار منها ما يناسب الحال دون ترك المستفتى حائرًا. فهذا من حجج الفاشيين أيضًا؛ لأن اختيار من يتصدى الفتوى لأحد الأراء التى يعلمها قد لا يكون مناسبًا لحال السائل، فيكون قد ظلمه بهذا الاختيار الذى أفقد السائل حقه فى السيادة على نفسه باختيار القول الذى يناسبه من بين الأقوال الفقهية المختلفة، فهو الأكثر معرفة بحال نفسه والأكثر ائتمانًا على دينه الذى جاء مختارًا يسأل عنه، فوقع فريسة للفاشى الدينى الذى أوهمه أن الرأى المختار عنده هو الدين الذى يحرم مخالفته فى كل موضع، فضلًا على انتقاص شأن السائل مع أن الله تعالى خيره بين ثلاث خلال متفاوتة القيمة فى كفارة اليمين: «إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهلكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة» (المائدة:89). كما خير المكفر فى صيد الحرم بقوله: «فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا» (المائدة:95). كما خير القرآن الكريم المحرم فى الحج أو العمرة إذا حلق رأسه لعذر بقول الله سبحانه: «فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك» (البقرة:196). وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فيما أخرجه الشيخان عن كعب بن عجرة أنه اشتكى للنبى صلى الله عليه وسلم هوام رأسه، وكان محرمًا بالحديبية، فقال له صلى الله عليه وسلم: «احلق وصم ثلاثة أيام، أو اطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة».

هذا التنوير العلمى فى القرآن والسنة بالتعددية الفقهية، مع تفاوت القيم فى الخيارات، هو الذى يرفع المستوى العام للوعى الجمعى والثقافة العامة، ويعلى من شأن الإنسان ويحميه من سيطرة الأوصياء والفاشيين. وهذا نفسه هو الذى توجه إليه الدستور المصرى الجديد الصادر فى يناير عام 2014م، حيث أنقذ المصريين من فاشية دينية محققة ابتدعت فى دستور 2012م (الإخوانى)، وجعل الدستور الجديد الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية (مادة7) وليس هيئة إسلامية دينية أو كهنوتية؛ فالعلم قائم على التعددية والتجديد والمنافسة البحثية بطبعه، وهذا كان واضحًا فى مناقشة تلك المادة حتى إن الدستور الجديد نفسه واتفاقًا مع مقاصده فى المنافسة العلمية قد نص فى مادتيه (23-66) على كفالة الدولة لحرية البحث العلمى، وفى المادة (47) على الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة، وفى المادة (64) على حرية ممارسة الشعائر الدينية، وفى المادة (65) على أن «حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر»، وفى المادة (67) على أنه: «لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة». هذا هو دستور مصر الجديد الذى يعلى من شأن العلم والبحث العلمى حتى فى العلوم الدينية من الفقه والتفسير وشروح الحديث وعلم الكلام؛ لحماية المصريين من الفاشية أو الكهنوت الدينى، ويكون نظام الحكم فيما بينهم بالقوانين وليس بالفتاوى، كما تكون الملاحقة بطلب التصويب للقانون الفاسد الذى يخضع له المصريون ويضر بمصالحهم، وليس للفتوى الفاسدة التى تعبر عن مزاج صاحبها أو رأيه الشخصى ولا حجية لها فى دين الله، ولا يترتب عليها فى ذاتها ضرر عام إلا فى ظل النظام الكهنوتى الذى يجعل للفتوى البشرية عصمة دينية ويسوى بينها وبين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الجهل والشرك والعياذ بالله.
هذا، وقد عالج الفقهاء قديمًا قضية إدارة شؤون الدولة فى مسألتى: حجية الفتوى والقضاء، وحجية التحكيم العرفى فى ظل القضاء الرسمى. وسوف نتناول هاتين المسألتين بالتوضيح فيما يلى:
أولًا: حجية الفتوى والقضاء

(1) الفتوى هى الإجابة عن السؤال، والاستفتاء هو طلب الجواب عن الأمر المشكل، ويشترط فيمن يتولى الإفتاء أن يكون عالمًا بما يقول من جواب؛ لقوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا» (الإسراء:36). وأخرج الدارمى من حديث عبيد الله بن أبى جعفر مرسلًا، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار». كما أخرج الحاكم وصححه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه». وبهذا يتضح أنه لا يشترط فيمن يتولى الإفتاء أن يكون منصبًا من قبل الإمام (الحاكم)؛ لأن الإفتاء عمل علمى وهو غير ملزم للمستفتى فهو إن لم ينفعه فلن يضره، والتناصح بين الناس جزء من طبيعتهم؛ لما أخرجه مسلم من حديث تميم الدارى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة...لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». وقد اختلف الفقهاء فيما لو سمع المستفتى أكثر من إجابة لسؤاله، وذلك على مذهبين.

المذهب الأول: يرى وجوب إعمال المستفتى لعقله أو قلبه فى الاختيار من الأقوال الفقهية المتعددة، وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والمالكية وبعض الشافعية والحنابلة. وحجتهم: ما أخرجه أحمد بإسناد جيد عن أبى ثعلبة الخشنى أنه قال: يارسول الله، أخبرنى بما يحل لى ويحرم على؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب. والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون». كما أخرج أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: «استفت قلبك استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك».

المذهب الثانى: يرى أن المستفتى بالخيار بين أن يأخذ بأى الأقوال الفقهية سمعها إجابة لسؤاله. وهو الأصح والأظهر عند الشافعية والقول الثانى عند الحنابلة، وحجتهم: أن فرض العامى هو التقليد، وهو حاصل بتقليده لأى المفتين شاء، مع عموم قوله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (النحل:43)، وكل من يتولى الإفتاء من أهله فهو من أهل الذكر.

(2) أما القضاء فهو الحكم القاطع للنزاع، ويشترط فيمن يتولاه أن يكون منصبًا من قبل الإمام (الحاكم)؛ لأنه من أعمال السيادة. قال تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله» (ص:26). كما أخرج أبوداود أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث على بن أبى طالب إلى اليمن قاضيًا. وأخرج الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيًا.
وحكم القاضى واجب النفاذ بالإجماع؛ حتى يتحقق مقصوده من فصل النزاع بين المتخاصمين، ولكن هل يؤثر حكم القضاء فى الحقيقة الدينية التى يعلمها أصحاب الشأن؟.

مذهبان للفقهاء

المذهب الأول: يرى أن حكم القاضى، وإن كان واجب النفاذ فى الدنيا، إلا أنه لا يغير من الحقيقة الدينية التى يعلمها أصحاب الشأن عن أنفسهم يوم لقاء الله، فمن حكم له بمال ليس له فيحرم عليه أن يقبضه. وهو مذهب الجمهور قال به أبويوسف ومحمد من الحنفية، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية. وحجتهم: ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار».

المذهب الثانى: يرى أن حكم القاضى واجب النفاذ فى الدنيا، وهو المعبر عن حكم الله فى الآخرة فى الأمور القابلة للإنشاء مثل النكاح والطلاق والبيع والإجارة إذا لم يكن القاضى عالمًا بزور الشهادة. أما الأمور غير القابلة للإنشاء والإرث والنسب أو ما كان بشهادة الزور عمدًا فلا تنفذ باطنًا، أى فى الحقيقة ونفس الأمر. وهو قول انفرد به الإمام أبوحنيفة، واستدل له ابن قدامة الحنبلى فى كتابه «المغنى» عن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أن رجلًا رفع إليه دعواه على امرأة زعم نكاحها، وشهد له شاهدان بذلك. فقضى الإمام على بينهما بالزوجية. فقالت المرأة: والله ما تزوجنى يا أمير المؤمنين. اعقد بيننا عقدًا حتى أحل له. فقال الإمام على: «شاهداك زوجاك». قال ابن قدامة مبينًا جهة الاستدلال لأبى حنيفة: «فدل على أن النكاح ثبت بحكمه».
ثانيًا: حجية التحكيم العرفى فى ظل القضاء الرسمى.

اختلف الفقهاء فى حكم التحكيم العرفى وحجيته بالتوازى مع نظام القضاء الرسمى، وذلك على مذهبين فى الجملة:
المذهب الأول: يرى مشروعية التحكيم العرفى فى حكم الأصل بالتوازى مع القضاء الرسمى. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية فى الأصح وأكثر المالكية والأظهر عند الشافعية فى القضايا من غير الحدود والقصاص ونحوهما. وذهب الحنابلة إلى مشروعية التحكيم العرفى فى كل ما يمكن أن يعرض على القضاء الرسمى من نزاعات الأموال والقصاص والحدود وغيرها. وحجتهم: عموم قوله تعالى: «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما» (النساء:35). وما أخرجه البخارى ومسلم عن أبى سعيد الخدرى قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبى صلى الله عليه وسلم إليه، فلما دنا من المسجد قال للأنصار: «قوموا إلى سيدكم، أو خيركم، ثم قال: هؤلاء نزلوا على حكمك». فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «قضيت بحكم الله». وما أخرجه أبوداود والنسائى بإسناد حسن، أن أبا شريح هانئ بن يزيد لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبى الحكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو الحكم، وإليه الحكم. فلم تكنى أبا الحكم»؟ فقال: إن قومى إذا اختلفوا فى شىء أتونى فحكمت بينهم، فرضى كلا الفريقين. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أحسن هذا. فما لك من الولد»؟ قال: لى شريح، ومسلم، وعبدالله. قال: «فما أكبرهم»؟ قال: شريح. فقال صلى الله عليه وسلم: «أنت أبوشريح. ودعا له ولولده».

واختلف أصحاب هذا المذهب فى حكم الرجوع عن التحكيم العرفى على أربعة أقوال فى الجملة.
1 - الحنفية وسحنون من المالكية والمعتمد عند الشافعية ورواية للحنابلة قالوا: يجوز لكل خصم أن يرجع عن التحكيم قبل صدور الحكم، فإن صدر الحكم لزمهما.
2 - أكثر المالكية وبعض الشافعية والرواية الثانية عند الحنابلة قالوا: إذا أقام الخصمان البينة لم يكن لأحدهما رد الحكم. أما قبل إقامة البينة فلكل منهما رده.
3 - ابن الماجشون المالكى قال: التحكيم لازم بمجرد الموافقة عليه، وليس لأحد الخصمين الرجوع ولو قبل بدء الخصومة.

4 - القول الثالث للشافعية: أنه يجوز لكل من المتخاصمين رد الحكم حتى بعد صدور الحكم؛ لأن رضا الخصمين معتبر فى أصل التحكيم فكذا فى لزوم الحكم.

المذهب الثانى: يرى أنه لا بديل عن القضاء فى حال إمكانه، فلا يجوز العمل بالتحكيم مع وجود القضاء، وهو قول بعض الحنفية والمالكية والشافعية، ونص عليه ابن حزم الظاهرى. وحجتهم: عموم قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم» (النساء:59). فوجب ألا ينفذ حكم أحد إلا من أوجب القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم نفاذ حكمه. ثم إنه لو قيل بصحة التحكيم مع وجود القضاء لتجاسر العوام ومن كان فى حكمهم إلى تحكيم أمثالهم، فيحكم المحكم بجهله بغير ما شرع الله تعالى من الأحكام فضلًا على الاستهانة بالقضاء وغير ذلك من المفاسد العظيمة.

وقد اختار المصريون من قضيتى حجية الفتوى والقضاء، وحجية التحكيم العرفى فى ظل نظام القضاء ما يلى.
(1) اختار المصريون ما ذهب إليه الشافعية فى الأظهر والقول الثانى عند الحنابلة من أن العامى المستفتى يختار ما يشاء من أقوال فقهية عند تعددها فى المسألة التى يطلبها. وترك المصريون مذهب الجمهور الذى يرى وجوب اجتهاد العامى فى الاختيار من بين الأقوال الفقهية المتعددة فى المسألة، ليس تجرؤًا على مذهب الجمهور، وإنما لثقة المصريين فى الفقهاء وإجلالهم لعلمهم، خاصة أن أحدهم لو قدر له أن يكون إمام مسجدهم أو مفتيًا لديارهم لتقبلوا قوله بقبول حسن. ولكن المصريين يتعجبون من تسلط الفاشيين الدينيين عليهم بفرض القول الفقهى الذى يختارونه هم، ولا يتركون الناس أحرارًا فى اختياراتهم الفقهية إما بتحكيم القلب وإما بالاختيار المطلق من أقوال الفقهاء بحسب إجماعهم الوارد فى المسألة، ولا يندهش المصريون من خرق الفاشيين الدينيين لهذا الإجماع؛ لأنهم لا يهدفون إلى نشر العلم والفقه، وإنما يسعون إلى السيطرة على الناس وقيادتهم من الباطن بفتاواهم الدينية.

(2) كما اختار المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذى يرى أن حكم القاضى لا يغير الحقيقة الدينية، فمن قضى له بحق يعلم أنه ليس له فإنه لا يستحله، ولم يكن اختيار المصريين لهذا القول باعتباره قول الجمهور وإنما لكونه الذى يتفق مع تدينهم الذاتى، وأن قول الإمام أبى حنيفة مع احترامهم له لن يغنى عنهم من الله شيئًا، فضمير الإنسان هو حاكمه الحقيقى أمام الله تعالى، وإن كان الإمام أبوحنيفة يرى أن حكم القاضى بمثابة العقد الذى يثبت به الحق.

(3) كما اختار المصريون قول بعض الحنفية والمالكية والشافعية وابن حزم الظاهرى الذين ذهبوا إلى عدم حجية التحكيم فى حال وجود النظام القضائى القائم على سيادة القانون؛ مراعاة لهيبة الدولة وقدسية القضاء، فالدولة تدار بالقانون والقضاء ولا تدار بالفتاوى. وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذى يرى مشروعية التحكيم العرفى فى ظل وجود النظام القضائى لقناعتهم بأن الدولة لا تقوى إلا بجيش قوى ونظام قضائى وشرطى حازم. أما الأعراف والعمل فى المجتمع المدنى فيجب أن يكون تحت مظلة القانون، وأما مصطلح الجمهور من الفقهاء فلا يخيف، ولا يعنى عصمة ما انتهى إليه من قول، فكم من أقوال فقهية فردية منحها المصريون ثقتهم والعمل بها؛ لتعبيرها عن مقاصد الشريعة الإسلامية من اليسر والرحمة وإكرام الناس، مثل رأى الأصم وابن علية فى تسوية دية المرأة بالرجل. ومثل رأى ابن تيمية فى قبول شهادة غير المسلم على المسلم فى القضاء فى العقود والتصرفات دون الاقتصار على الوصية فى السفر. ومثل رأى الظاهرية وما روى عن على وابن عباس وجابر وعائشة والحسن وعطاء من أن المرأة إذا مات عنها زوجها فإنها تعتد حيث شاءت وتسافر حيث شاءت فى مدة العدة ما لم يكن إثمًا؛ لأن عدة الأرملة تعنى عدم زواجها، ولا تعنى حبسها فى مكان معين. ومثل قول الأوزاعى والباجى من أن المرأة لها أن تسافر وحدها فى الطرق العامرة والبلاد المتصلة. ومثل قول المالكية فى الجملة وبعض الشافعية أن الرفقة الآمنة للمرأة تغنى عن مرافقة الزوج أو المحرم. ومثل قول أبى حنيفة ورواية عن أحمد فى تولى المسلم العمل بأجر فى الأماكن السياحية التى يحمل فيها (الخمر والخنزير) لمن يتناوله طالما أن المسلم لا يتعاطى ذلك؛ لأن الحمل فى ذاته ليس معصية. وهكذا فى مئات المسائل التى اختار فيها المصريون قول بعض أهل العلم وتركوا قول جمهور الفقهاء فيها؛ لأن أقوال الفقهاء وفتاواهم ليست هى مراد الله قطعًا، وإنما هى آراء لأصحابها يغلب على ظنهم أنها الصواب، ومن حق المسلم أن يختار منها ما يطمئن إليه قلبه لا ما يفرضه عليه الأوصياء الفاشيون.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 5

عدد الردود 0

بواسطة:

ابراهيم ذكى

شكرا لليوم السابع ولك لكن هل سيكون هناك فقة اسلامى ف المستقبل؟ حتما لن يكون

عدد الردود 0

بواسطة:

أحمد حسنين

مشايخ السلطان

عدد الردود 0

بواسطة:

ابراهيم ذكى

شكرا لليوم السابع ولك لكن هل سيكون هناك فقة اسلامى ف المستقبل؟ حتما لن يكون

عدد الردود 0

بواسطة:

ابراهيم ذكى

النفاق الاخوان(المتأسلمين عامة) مابين حضرتك والاتهام بالسقوط عند المعلق 2 احمد حسنين

عدد الردود 0

بواسطة:

ابراهيم ذكى

النفاق الاخوان(المتأسلمين عامة) مابين حضرتك والاتهام بالسقوط عند المعلق 2 احمد حسنين

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة