منتصر الزيات

عن جهاد النفس

الأحد، 09 مارس 2014 07:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ينتشر بين العامة منذ زمن بعيد ما يتردد عن أنه حديث للنبى صلى الله عليه وسلم بعد عودة المسلمين من غزوة تبوك «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل وما الجهاد الأكبر، قال مجاهدة العبد هواه أو نفسه أو جهاد القلب»، غير أن علماء الحديث قالوا إنه لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
وذهب علماء الحديث إلى عدم جواز العمل بالحديث الضعيف على تفصيل، بعضهم لم ير بأسًا فى العمل بالحديث الضعيف فى فضائل الأعمال بشروط، فلا يكون الضعف شديدًا، أو انفرد بالرواية من عرف عنه الكذب أو اتهم به، وألا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط، بينما ذهب آخرون إلى عدم جواز العمل بالحديث الضعيف مطلقًا، وأبرز هؤلاء أبوبكر بن العربى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، فى «مجموع الفتاوى»: «ولا يجوز أن يعتمد فى الشريعة على الأحاديث الضعيفة التى ليست صحيحة ولا حسنة، لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى فى فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب، وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعى وروى حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقًا، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشىء واجبًا أو مستحبًا بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع.. فيجوز أن يروى فى الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب، ولكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا المجهول حاله».
غير أن مجاهدة النفس وكبح جماحها وإلزامها بالخضوع لطاعة الله فى الطريق المستقيم هى من جملة التكليف الربانى للبشر عند خلقه آدم وحواء، كما قال الشاعر «وجاهد النفس والشيطان واعصهما # وإن هما محضاك النصح فاتهم»، ومن أجمل ما ذكره ابن القيم فى مصنفه الأشهر «زاد المعاد»: «فجهاد النفس أربع مراتب أيضًا: إحداها: أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذى لا فلاح لها، ولا سعادة فى معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت فى الدَّارين. الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها. الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله. الرابعة: أن يُجاهِدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانِيينَ، فإن السلفَ مُجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يَستحِقُّ أن يُسمى ربَّانيًا حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعَلِّمَه، فمَن علم وَعَمِلَ وعَلَّمَ فذاكَ يُدعى عظيمًا فى ملكوتِ السماوات».
كثرت فى أيامنا المتأخرة الاستعانة بهذه المأثورة الكبيرة فى معانيها، فلا يتحدثن واحد منا عن الجهاد إلا وتمتم بين شفتيه: المهم جهاد النفس، ويكمل الجملة الشهيرة «عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، بيد أنه لا أحد فينا- إلا من عصم ربى- يبذل القدر اللازم لمجاهدة النفس لتهذيب سلوكه، والتوقف عن إتيان ما نهى الله عنه، وحمل النفس على الإنتاج هو جزء مهم من المجاهدة، وما تأخرنا عن ركب التقدم إلا لهوان عزيمتنا عن الإبداع والعمل الجاد والقدرة على الابتكار.
سبعة أشهر مرت تقريبًا منذ خرج الناس على حكم الرئيس مرسى، وحدثت التحولات الدراماتيكية التى عاصرناها، ولم يزل الناس يرددون حتى الآن ويتجادلون عن الثورة والانقلاب؟ وضقت ذرعًا بإعلاميين لا يحلو لهم عند إدارة الحوارات المتلفزة إلا جر ضيوفهم للحديث عما جرى فى 30 يونيو أو 3 يوليو، فى الوقت الذى يجب فيه إدارة دفة الحديث عن كيفية استشراف المستقبل، وكيفية تضميد جراحاتنا، وانتشال مصر من قاع سحيق لو لم تتكاتف الجهود لإبعادها عنه.. ذلك أمر يحتاج منا إلى «مجاهدة النفس».. لست أدرى لم لا نقتبس من نسق حضارتنا قبسات تلملم وتكفكف وتعين على نوائب الدهر؟، فأسلافنا العظام علمونا بممارسة حقيقية على أرض الواقع احترام حرية الرأى والتعبير، فيقول الفقيه منهم «رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب»، ولأننا تأخرنا على كل الأصعدة صرنا أيضًا نعد الاختلاف فى الرأى خصومة تفرز عداوة، وتنثر معها مشاعر الكراهية والبغض، فينعكس ذلك على المجتمع سلبًا.
قد تبدو المقولة من كثرة ترديدها باهتة، كلمة معانيها عظيمة قصد منها حث همة الأمة، فتعتبر بعلاج النفس وأغوارها، لأن الأدواء القلبية تعطل المسيرة.. هذا التلاحم القلبى سبب أكيد من أسباب تميز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات، لأنه ينطلق من العقيدة «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ»، وحدة المشاعر داخل النفس البشرية تؤدى دائما إلى تحقيق أفضل النتائج.
تلك المجاهدة تحتاج إلى توازن نفسى، ذلكم التوازن يسهل مهمة تحقيق المنهج وتنفيذه، لأن غرض الله من الخليقة هو العبادة «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» وكما هو فى حديث معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: «كنت رديف النبى صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لى: «يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟» فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا»، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا».
إذا افتقد المرء توازنه النفسى اختل، واتسم أداؤه بالعشوائية، وهو ما يصيب مجتمعاتنا بالازدواجية، اختلالًا بالتنازع بين تاريخ مجيد حققه أسلافنا العظام، ويحويه كتاب لا يأتيه الباطل بما يمثله من منهج فريد، واتباع للغرب حذو القذة بالقذة لا فى شأن التقنية والتقدم والإبداع والابتكار والعمل والإنتاج، إنما فى المجالات الاستهلاكية النمطية والشكلية المظهرية، ولله فى خلقه شؤون.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة