سعد الدين الهلالى

الوصية الواجبة (1)

الإثنين، 17 نوفمبر 2014 09:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أضاف الفقهاء المصريون للفقه مصطلحًا جديدًا وهو مصطلح «الوصية الواجبة» الذى عرف لأول مرة سنة 1946 بإصدار قانون الوصية رقم (71) مستندًا إلى التأصيل الشرعى لعقد الوصية والتخريج على مسائلها عند الفقهاء، وعلى القواعد الفقهية العامة. ويعنى مصطلح «الوصية الواجبة» فى الجملة إعطاء الأحفاد غير الوارثين من تركة جدهم – أو جدتهم – نصيبًا بمثل نصيب إرث أبيهم – أو أمهم – لو كان حيًا فى حدود ثلث التركة بصفة الوصية لا بصفة الميراث. ولأن هذا الإعطاء بوصف الوصية سيتم قسرًا بحق الولاية العامة إذا لم يفعله الجد - أو الجدة - قبل موته اختيارًا - ولو بصفة العطية - فقد وصفت تلك الوصية بالواجبة، أى الملزمة والتى سيقوم القضاء العام بإنفاذها وجوبًا فى مواجهة الورثة. ولذلك يتجه بعض الفقهاء المعاصرين إلى وصف هذا الوجوب بالقانونى أو الوضعى لتمييزه عن الوجوب الشرعى أو الفقهى. إلا أن هذا الاتجاه يقوم على عدم الاعتراف بالقانون كوجه من وجوه الشريعة الإسلامية، ولذلك يصفونه بالوضعى ويقصدون بهذا الوصف أنه من فكر البشر وابتكار الإنسان وليس من شريعة السماء متغافلًا حق الإنسان الشرعى فى الاجتهاد والتجديد ووضع اللوائح والقوانين وابتكار العقود بما لا يخالف المبادئ العامة الدينية، ومتجاهلًا حقيقة الفقه الإسلامى وأنه من اجتهاد الفقهاء ووضعهم بفهومهم البشرية إلا أنهم سبقوا فى وصف اجتهاداتهم بالشرعية فظن هؤلاء البعض أن الشريعة صارت حكرًا على من سبق بوصف كلامه بها فمنع واضعى القانون من وصف قانونهم بالشرعى مع أنه نتاج اجتهاد مشكور مبنى على اجتهاد الفقهاء الموصوف قولهم بالشرعى مما يجعل القانون شرع الشرع؛ لأنه اجتهاد من اجتهاد، بل ويزيد أنه اختيار ولى الأمر الواجب طاعته فى عموم قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم» (النساء:59)، إنه إذا أردنا تعظيم لفظ الشرع فإنه يجب تخصيص نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة به، فلا يوصف بالشرع إلا كلام الله تعالى ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم بدون أى إضافة من شرح أو تعليق. أما كلام الفقهاء من الشراح والمفسرين والمؤولين والمعلقين لنصوص الشرع فهو كلام من وضع البشر يوصف بأنه «صواب يحتمل الخطأ، أو خطأ يحتمل الصواب»، ويسرى عليه ما يسرى على القانون الذى لم يخرج عن قواعد الفقهاء، فقد أخرج مسلم عن بريدة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول لأمراء جيوشه: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا».

وللوقوف على حقيقة «الوصية الواجبة» الشرعية والفقهية فإنه يجب التعريف بالوصية وبيان مشروعيتها وحكمها التكليفى، وأهم ضوابطها الفقهية، وحكم تخريج «الوصية الواجبة» عليها، واختيار المصريين من ذلك.

(1) أما تعريف الوصية فهى فى اللغة تطلق على العهد إلى الغير فى القيام بأمر من الأمور. والوصية فى اصطلاح الفقهاء لا تخرج عن كونها تصرفا فى التركة مضافا إلى ما بعد الموت، ويكون غالبًا فى صورة تبرع من التركة.

(2) وأما مشروعية الوصية فهى ثابتة عقلًا ونصًا، كما نوضحه فيما يلى:

(أ) أما دليل النص الشرعى لمشروعية الوصية فمن القرآن والسنة.

أما القرآن الكريم فمنه عموم قوله تعالى: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين» (البقرة:180). يرى الفقهاء أن هذا الطلب للوصية دليل على مشروعيتها. ويدل عليها أيضًا عموم قوله تعالى: «من بعد وصية يوصى بها أو دين» (النساء:12) ، وقوله تعالى: «من بعد وصية توصون بها أو دين» (النساء:12) ، ويرى الفقهاء أن هذين النصين جعلا الميراث حقًا مؤخرًا عن تنفيذ الوصية وأداء الدين، وقالوا إن تقديم الوصية على أداء الدين ليس للحقيقة وإنما هو لتقوية مشروعيتها فى مواجهة الورثة الذين يكرهونها بسبب تأثيرها سلبًا على أنصبتهم، وأما تسديد الديون فهو مقدم على تنفيذ الوصية؛ لما أخرجه الترمذى بإسناد حسن عن على بن أبى طالب أنه قال: إنكم تقرأون هذه الآية «من بعد وصية توصون بها أو دين» وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.

وأما النصوص من السنة على مشروعية الوصية فمنه ما أخرجه الشيخان عن سعد بن أبى وقاص قال: جاء النبى صلى الله عليه وسلم يعودنى وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التى هاجر منها. (قال الكرمانى: الضمير فى يكره يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم يرجع إلى سعد) . فقال سعد: يا رسول الله: أوصى بمالى كله. وفى رواية قلت يا رسول الله أنا ذو مال ولا يرثنى إلا ابنة واحدة، أفأتصدق بثلثى مالى؟ قال: «لا». قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا، الثلث والثلث كثير؛ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس».

وأخرج الدارقطنى بسند فيه مقال عن معاذ بن جبل أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة فى حسناتكم ليجعلها لكم زيادة فى أعمالكم»، وأخرجه الطبرانى بلفظ: «ليجعلها لكم زكاة فى أعمالكم».

وأخرج الشيخان عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شىء يريد أن يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». وأخرج الدارقطنى عن معاوية بن قرة عن أبيه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من حضرته الوفاة فأوصى وكانت وصية على كتاب الله كان كفارة لما ترك من زكاته». وأخرج ابن ماجه والدارقطنى بسند فيه مقال عن ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول: يا ابن آدم اثنتان لم تكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبًا من مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به ولأزكيك، وصلاة عبادى عليك بعد انقضاء أجلك».

(ب) وأما دليل العقل على مشروعية الوصية فهو حاجة الناس إليها لتدارك ما فاتهم فى حياتهم من أعمال الخير. حتى إن فقهاء الحنفية الذين قالوا إن الوصية تخالف القياس فى عقود التمليكات؛ لأنها تمليك مضاف إلى حال زوال صفة الملكية إلا أنهم قالوا باستحسان عقل لحاجة الناس إليها، فكان هذا الاستحسان مقدمًا على القياس لتلبية مصالح الإنسان الذى تغره الآمال أو كان يغلب على طبعه البخل فيقصر فى عمل الخير، فإذا عرض له المرض احتاج إلى تلافى بعض ما فرط منه، فكان فضل الله تعالى عليه بمشروعية الوصية.

(3) وأما حكم الوصية التكليفى فقد اختلف فيه الفقهاء على مذهبين.

المذهب الأول: يرى أن الوصية مستحبة وليست واجبة، وهو قول الجمهور ذهب إليه الفقهاء فى المذاهب الأربعة المشهورة، وهو قول الشعبى والنخعى والثوري. وحجتهم: (1) أن الوصية لو كانت واجبة لفعلها النبى صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه، ولم ينقل ذلك عنهم فدل على أن الأمر بها فى كتاب الله يدل على الاستحباب أو الجواز ولا يدل على الوجوب فى عموم قوله تعالى: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين» (البقرة:180). (2) القياس على العطية فى الحياة، فإذا كانت تلك العطية غير واجبة فكذلك الوصية التى تكون بعد الموت.

المذهب الثانى: يرى أن الوصية واجبة. وهو قول عبدالله بن أبى أوفى وطلحة بن مصرِّف والزهرى وأبومجلز وهو مذهب الظاهرية، وبه أخذ أبوبكر عبدالعزيز الحنبلى للأقربين الذين لا يرثون، وحكى ذلك عن مسروق وطاوس وقتادة وابن جرير الطبرى. وحجتهم: (1) عموم قوله تعالى: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين» (البقرة:180). قالوا: وكتب بمعنى فرض، وإنما استثنى الوارث من الوارد ذكرهم فى الآية بعموم ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائى بإسناد حسن عن أبى أمامة الباهلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث». (2) عموم قوله تعالى: «وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولًا معروفًا» (النساء:8). قالوا فهؤلاء الذين حضروا القسمة من غير الوارثين يأخذون بغير الميراث كأهل الوصية، فقد أخرج البخارى عن ابن عباس قال: إن ناسًا يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس. هما واليان، وال يرث ووال لا يرث، فذاك الذى يقول بالمعروف يقول: لا أملك لك أن أعطيك. (3) عموم ما أخرجه مسلم عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة». قال ابن عمر: ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندى وصيتي.

وللوصية ضوابط فقهية حتى لا تكون حقًا يراد به باطل. وللحديث بقية.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة