منتصر الزيات

شىء من النقد الذاتى

الأربعاء، 03 يوليو 2013 08:51 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الحق الذى لا مرية فيه هو أن الهزيمة - كحالة واقعية قد تصيب المجتمع المسلم كما تصيب غيره وفق نواميس الكون التى قدرها الخالق سبحانه لتسود بين البشر - لها أحكامها الشرعية كما أن لها قواعدها الحياتية التى اصطلح عليها العرف الإنسانى منذ قديم الأزل، والمسلم بصفته الإنسانية إذا تخلى عن الأسباب التى تكفل له التميز عن غيره من البشر بمذاهبهم وأيديولوجياتهم الوضعية وتضمن له من ثم التفوق كان فى شأنه ما يمكن أن يكون مع غيره وفق موازين القوة المادية.. تلك الحقيقة عبّر عنها بوضوح أحد أعظم قادة المسلمين فى أيام عزهم الأول، وهو يوصى جنده قبيل إحدى المعارك: «إنكم إذا استويتم مع عدوكم فى المعاصى والذنوب تفوّق عليكم بالعدة والعتاد».
وحينما تحدث الهزّة فى المجتمع المسلم تؤدى إلى الهزيمة وما يتبعها من آثار قاسية، إما أن تقعد به ويتقهقر بها بعيداً فى نهاية الركب ومؤخرة الحضارات، وإما أن يعمل على تفاديها ومواصلة الجهاد بتفادى المحطات التى تسببت فى حالة الهزيمة وأحدثت العثرة.
ولقد عرف النموذج الأمثل للدولة الإسلامية فى أيام قائدها الأول تطبيقاً واقعياً لهذه النواميس الكونية.. فعندما خالف الجند أوامر قائدهم فى غزوة أُحد كانت الهزيمة بما فيها من آثار مدمرة، كادت تعصف بالكيان الإسلامى كله من قتل لخيرة الجند والقادة وذيوع الشائعات بأن محمداً قد قُتل، وطاشت الاتهامات وتبدلت حول أسباب الهزيمة.
وتكرر الموقف مرة أخرى فى غزوة حنين، حينما ظنت الآلاف التى خرجت فى الجيش المسلم، أن النصر حليفها وقالوا لن نهزم اليوم من قلة، فكانت الهزيمة لأن المعنى الذى أراد الله سبحانه أن يعلمه للمسلمين فى كل زمان ومكان، هو أن النصر ليس بالعتاد والعدد فقط فى الحروب العقائدية، وإنما يتحقق بمقدار اتصال القلوب بمنهج الله أولاً ثم التماس الأسباب المادية فى إعداد العدة.
ولعل أهم سمة يتميز بها المجتمع الإسلامى فى حال الهزيمة هى استعلاؤه بإيمانه وثقته بنصر الله وشدة يقينه فى رفعة منهج الله وبراءته، مما قد يلحق بالمسلمين من هزيمة مصداقًا لقول الله تعالى: «أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم».
إن الهزيمة كحالة واقعية مادية حينما تعرض بالصف الإسلامى لا ينبغى الاستسلام لها والنكوص عن المنهج عياذاً بالله لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةً على المؤمنين أعزةً على الكافرين». بل توجه الطاقات كلها والعزائم من أجل النهوض من العثرة والخروج سريعًا من حال الهزيمة واعتماد سبل أخرى واستراتيجيات غير التى أدت إلى الهزيمة للنهوض ومواصلة السير لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير».
وكما أجاز علماء الأصول تغير الفتوى بتغير الواقع واختلاف البيئة والزمان، وأجازوا السير بسير الأضعف فى بعض الأحيان، فإن أسلوب الكتيبة المسلمة فى مواجهة الواقع الذى تعيشه يتغير بتغير الظروف من دون أن يعنى ذلك التنازل عن الدين كمنهج حياة وثوابته العقائدية.
إن الهزيمة على النحو الذى أسلفنا قد تكون حالاً زمنية موقتة لا يلبث المجتمع المسلم أن يتجاوزها ويسعى سعيًا حثيثًا إلى تحصيل أسباب النصر فينهيها بكسب الموقعة التى تليها، وهنا تكون الهزيمة حالاً صحية ودليلاً على حيوية المجتمع المسلم وقدرته على التفاعل وتخطى أزماته وتنقية صفوفه من معوقات النصر.. ولكنها فى فروض أخرى تطول وتستحيل حالاً معنوية تكثر فيها الأسباب المعطلة وترتفع فيها أصوات المثبطة وتتقدم زعامات غير مؤهلة وتتبعثر القدرات والطاقات فتضحى غير مؤثرة ويعجب كل ذى رأى برأيه فتضحى الهزيمة حالاً مرضية وأهم ملامحها:
1 - البعد عن منهج الله وتحكيم شرعه فيما شجر بين أفراده من نزاعات: لقد حدد الله سبحانه الأصول المرعية فى ضرورة التحاكم إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فى كل ما يعرض للكتيبة المسلمة ويثور بين أفرادها من أزمات واختلافات.
2 - إعجاب كل ذى رأى برأيه: إذا ضعف الوازع الدينى فلا شك أن الذى يترتب على ذلك بالتالى هو تواتر الإحساس بالمراقبة لقوله سبحانه: «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت»، وقديمًا قال أحد السلف: «إياك أن يكون الله أهون الناظرين إليك».
فإذا ضعف الشعور بالمراقبة فالنتيجة المنطقية هى عدم السعى إلى تحكيم شرعه فى المعاملات وطريقة الخروج من المحن وفض المنازعات الفقهية والفكرية بين أنصار الفكرة الإسلامية وتعاظم الرأى البشرى واعتزاز كل صاحب رأى برأيه وانتصاره له وعدم التحلى بأدب الاختلاف.. كل ذلك يكون على حساب وحدة الصف كأهم سبب للنصر وباعثا على تفجير الطاقات الكامنة والقدرة على قبــول التحدى مع الحضارات الأخرى المتنافسة.
3 - التباغض والتدابر: لعل الحكمة التى أراد الله أن يجعلها فى متناول الأجيال المتعاقبة من الأمة الإسلامية فى كل عصر ومصر من هجرة النبى محمد إلى مكة وسعيه إلى تأسيس الدولة الإسلامية، هى أن اللبنة الأولى التى وضعها فى طريق بناء هذه الدولة الشامخة القوية هى الحب فى الله والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. فأوثق على الإيمان الحب فى الله والبغض فى الله فمن أعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان، كما أن الذين يقدرون على تحقيق النصر يتميزون بكونهم «أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين»، إن شيوع الغيبة والنميمة بين جنود الصحوة الإسلامية المعاصرة هو من أهم أسباب تعثرها وعجزها عن بلوغ مآربها.
4 - تعددية الجماعات واختلاف الرؤى، يقول بعض مشايخنا: إن تعددية الجماعات وكثرتها ظاهرة صحية تدل على حيوية الصحوة الإسلامية.
قد يكون مثل هذا التصور صحيحاً لو كانت التعددية باعثة على تسخير الطاقات والإمكانات وقادرة على بلوغ الاستفادة بالرأى الأرجح وتوافر ما يمكن أن يعبر عنه بأدب الاختلاف ويكون الرأى صواباً يحتمل الخطأ على النحو الذى سلف فى أيام عز الإسلام وصحوته.. أما إذا كانت التعددية سببًا للفرقة وتنابز الآراء وتبادل الاتهامات، وزعم كل هيئة أو حركة احتكارها حق الحديث باسم الإسلام أو التيار الإسلامى عمومه، فهنا تكمن علة الداء ويكون فى كثرة مثل هذه الحركات تكريس لواقع مُرّ كالعلقم، إذ تعجز عن التواصل فيما بينها والتعاون على البر والتقوى وتوجيه قدراتها لما فيه خير البلاد والعباد.
5 - تفشى الذنوب وشيوع الخطايا، قدمنا ما حملته إلينا كتب السير والتراجم من قولة شامخة لقائد مسلم عظيم وهو يوصى أجناده: «عليكم بتقوى الله فإنكم إذا استويتم مع عدوكم فى الذنوب تفوّق عليكم بالعدة والعتاد».. إن الحركة الإسلامية مطالبة اليوم وهى تبحث عن أسباب هزيمتها وطول نكستها أن تتوب إلى الله من الذنوب والمعاصى قادة وأجناداً فرادى، وجماعات، فالذنب قد يقترفه الفرد فتتعطل به مسيرة الأمة، ولا ينبغى التهوين من هذا السبب كمعطل للأمة ومعرقل لها عن بلوغ النصر، فإيانا وتحقير الذنوب وقديما قال الشاعر: «خلِ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى/لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى».
6 - الجمود والتقليد والمحاكاة وتعطيل الاجتهاد. إن أهم ما يميز الإسلام عن غيره من الشرائع هو اتصافه بالتجريد والعمومية، إذ جعله الله صالحًا لكل زمان بما حواه القرآن من مبادئ عامة تستطيع الأمة أن تستلهم معانيها وبيان العلة فيها من أسباب النزول ومما تقدمه السُنة كمصدر مهم من مصادر التشريع من تفسير للآيات والأحكام القرآنية، غير أن أشد ما يمكن أن يُبتلى به جيل مهزوم هو أن يقعد عن متابعة التطور الحاصل من حوله فى العلوم الحديثة ووسائل التقنية الحديثة وتحت شعار الاتباع تتعطل فرضية الاجتهاد وفق الضوابط والأطر التى ارتضاها المشرع الإلهى سبحانه، ورخص فيها للأمة أن تفجر طاقاتها وتعطى الفرصة لكفاءاتها عبر هذا الرافد المهم من روافد التشريع الإسلامى فتكون السمة الغالبة لكل جيل مهزوم عاجز عن مراجعة أسباب الهزيمة غير مدرك لمغزاها التقليد والمحاكاة والتمسك بوجه وحيد فى تأويل النصوص.
فى مثل هذه الأجواء المحبطة التى تعكس مرارة الهزيمة يغلب التقويم الظاهرى للمواقف والأحداث وتسود الشعارات من دون تقديم البدائل المنتجة وتغيب الدلالات التى يمكن استنباطها من معالجة التاريخ الإسلامى لمثلها وما يشابهها من وقائع، فلقد حملت كتب السيرة ما لحق بالجيش المسلم فى غزوة مؤتة من هزة نتجت عن مقتل قائديه الثلاثة الذين كلفهم النبى محمد بقيادة الجيش، ومع غياب النص تقدم خالد بن الوليد لحمل اللواء ونظم صفوف جيشه واتخذ قراره الحاسم بالانسحاب ولم يأبه لدعاوى ارتفعت ضده تتهمه بالتخاذل هاتفة فى وجهه «الفرار»، غير أن التوجيه النبوى جاء حاسماً بقوله: «بل هم الكرّار إن شاء الله».
إن المخلصين فى الحركة الإسلامية معنيون اليوم قبل غد بإصلاح خلل كبير ربما سببّه تسلط البعض من أبنائها على خطابها السياسى والإعلامى واحتكار الحديث باسمها فانحرفوا بها بعيداً عن جادة الطريق، ومعنيون أكثر بفك الاشتباك بين القضايا الحقيقية والأخرى المفتعلة وصولاً إلى نقطة انطلاق حقيقية تتضافر فيها معانٍ أصيلة ضمنتها التعاليم الإسلامية وهموم الأمة وحاجتها إلى مواكبة ركب الحضارة وفق نسق إسلامى رفيع.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة