سعد الدين الهلالى

مس المصحف وحمله لغير المتطهر

الإثنين، 16 ديسمبر 2013 03:15 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
المصحف فى اللغة: بضم الميم على المشهور، ويجوز كسرها، وهو اسم لكل مجموعة من الصحف المكتوبة ضمت بين دفتين. والمصحف فى اصطلاح الفقهاء: اسم للمكتوب فيه كلام الله تعالى بين الدفتين.

ويصدق المصحف على ما كان حاويًا على وجه الاستقلال للقرآن الكريم كله، أو جزءٍ أو ورقٍة فيها بعض سورة أو لوحٍ أو آية مكتوبة.

والأحداث التى توجب الطهارة الشرعية نوعان فى الجملة. حدث أكبر وعماده الجنابة، وانقطاع دم الحيض والنفاس، وتكون الطهارة منه بالاغتسال. وحدث أصغر وعماده قضاء الحوائج من السبيلين، وتكون الطهارة منه بالوضوء.

وتجب الطهارة الشرعية بالإجماع عند القيام إلى الصلاة، واختلف الفقهاء فى وجوبها فى بعض العبادات الأخرى، ومن تلك المسائل الخلافية مس المصحف وحمله بغير عذر مسوغ كحمايته من عدو، أو غرق، أو تنجس أو سرقة.

ويرجع سبب الخلاف ـ كما يذكره ابن رشدـ إلى تردد مفهوم قوله تعالى: «لا يمسه إلا المطهرون» (الواقعة: 79) بين أن يكون «المطهرون» هم بنو آدم وبين أن يكونوا هم الملائكة. وبين أن يكون هذا الخبر مفهومه النهى، وبين أن يكون خبرًا لا نهيًا. فمن فهم من «المطهرون» بنى آدم، وفهم من الخبر النهى قال: لا يجوز أن يمس المصحف إلا طاهر. ومن فهم منه الخبر فقط، وفهم من لفظ «المطهرون» الملائكة قال: إنه ليس فى الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة فى مس المصحف، وإذا لم يكن هناك دليل لا من كتاب ولا من سنة ثابتة بقى الأمر على البراءة الأصلية، وهى الإباحة.

ويمكن إجمال أقوال الفقهاء فى تلك المسألة فى ثلاثة مذاهب.
المذهب الأول: يرى تحريم مس المصحف أو حمله لغير المتطهر من الحدثين الأكبر (الذى يوجب الاغتسال) والأصغر (الذى يوجب الوضوء)، فلا يجوز للجنب أو الحائض، كما لا يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف، أو أن يحمله. وهو مذهب جمهور الفقهاء، قال به الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وروى عن ابن عمر والقاسم بن محمد والحسن وقتادة وعطاء والشعبى. ولا يباح للمحدث مس المصحف، إلا إذا أتم طهارته، فلو غسل بعض أعضاء الوضوء لم يجز مس المصحف به قبل أن يتم وضوءه. وفى قول عند الحنفية: يجوز مسه بالعضو الذى تم غسله. وحجتهم: 1 - عموم النهى فى قوله تعالى: «إنه لقرآن كريم فى كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون» (الواقعة:77-79)، قالوا: إن المتبادر إلى الذهن هو رجوع الضمير إلى القرآن الكريم الذى بين أيدينا، وقد جاء الحكم بعدم مساسه إلا بطهارة شرعية لظهور معنى النهى فى السياق. 2 - ما أخرجه مالك مرسلاً ووصله النسائى وابن حبان من حديث عمرو بن حزم، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كتب لأهل اليمن: «ألا يمس القرآن إلا طاهر». قال ابن حجر: وهو معلول، وقال ابن دقيق العيد: هذا مرسل، ومن الناس من يثبت هذا الحديث بشهرة الكتاب وتلقيه بالقبول، ويرى أن ذلك يغنى عن طلب الإسناد. قلت: وقد ورد هذا الحديث عند الطبرانى والدار قطنى عن ابن عمر مرفوعًا. قال الهيثمى: ورواية الطبرانى برجال موثقين، وقال ابن حجر: إسناده لا بأس به.

المذهب الثانى: يرى تحريم مس المصحف أو حمله للمحدث حدثًا أكبر، ويجوز لغير المتوضئ أن يمسه أو أن يحمله. وهو قول بعض المالكية حكاه القرطبى بصيغة التضعيف فقال : وقيل يجوز مسه بغير وضوء. كما ذهب إليه بعض الشافعية حكاه ابن الصلاح وجهًا غريبًا كما وصفه القليوبى. وحجتهم: 1 - ما أخرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف عن على بن أبى طالب قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأتى الخلاء فيقضى الحاجة ثم يخرج فيأكل معنا الخبز واللحم ويقرأ القرآن ولا يحجبه - وربما قال: لا يحجزه – عن القرآن شئ إلا الجنابة. وأخرج ابن حبان بإسناد حسن عن على، قال: كان النبى، صلى الله عليه وسلم، لا يحجبه عن قراءة القرآن ما خلا الجنابة. قالوا: وهذا يشمل القرآن الكريم قراءة وحملاً ومسًا. 2 - أن الحدث الأكبر أغلظ من الحدث الأصغر فيتسامح فيه ما لا يتسامح فى الحدث الأكبر، بشأن مس المصحف وحمله؛ جمعًا بين رفع الحرج عن الناس وبين حق المصحف من الإجلال.

المذهب الثالث: يرى جواز مس المصحف أو حمله للمحدث مطلقًا، أى فى الحدث الأصغر والأكبر على السواء. وهو مذهب الظاهرية قال به داود بن على وابن حزم، وإليه ذهب الحكم، وحماد بن أبى سليمان شيخ أبى حنيفة. وحجتهم: 1 - أن النبى، صلى الله عليه وسلم، أرسل قرآنًا إلى كسرى وقيصر، وهم على غير طهارة شرعية، فلم يكن فى ذلك حرج، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى سفيان أن النبى، صلى الله عليه وسلم، أرسل إلى هرقل كتابًا جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم الأريسيين. «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» (آل عمران 64).

قال النووى: اختلف فى ضبط الأريسيين على أقوال. أحدها: بياءين بعد السين. والثانى: بياء واحدة بعد السين، والهمزة فيهما مفتوحة. والثالث: الإريسين بكسر الهمزة وتشديد الراء وبياء واحدة بعد السين. ووقع فى الصحيحين رواية اليريسيين بياء مفتوحة فى أوله، وبياءين بعد السين. واختلفوا فى المراد بهم على أقوال أصحها وأشهرها: أنهم الأكارون أى الفلاحون والزراعون. ومعناه أن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك، ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا، لأنهم الأغلب ولأنهم أسرع انقيادًا، فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا، وهذا القول هو الصحيح وقد جاء مصرحًا به فى رواية البيهقى فى «دلائل النبوة» وفى غيره: فإن عليك إثم الأكارين. الثانى: أنهم اليهود والنصارى، وهم أتباع عبدالله بن أريس الذى تنسب إليه الأروسية من النصارى ولهم مقالة فى كتب المقالات ويقال لهم:
الأروسيون. الثالث: أنهم الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها. 2 - أن الضمير فى قوله تعالى: «لا يمسه إلا المطهرون» (الواقعة:79)، يرجع إلى أقرب مذكور وهو اللوح المحفوظ، وليس إلى القرآن الكريم. واللوح المحفوظ بيد الملائكة المطهرين، فتكون الآية خبرًا وليست نهيًا. 3 - أن الأحاديث الناهية عن لمس القرآن إلا بطهارة أحاديث مرسلة أو معلولة فلا يصح الاحتجاج بها فى إثبات واجب، عملاً بالإباحة الأصلية. 4 - ما أخرجه مسلم، وذكره البخارى تعليقًا، عن عائشة قالت: كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يذكر الله على كل أحيانه. قالوا: وهذا يشمل حال الطهارة الشرعية وغيرها، ومن مقتضى الذكر الإمساك بالمصحف.

وقد اختار المصريون ما ذهب إليه بعض المالكية فى قولهم المذكور بصيغة التضعيف، وبعض الشافعية فى وجههم الموصوف بالغريب، القائلون بجواز مس المصحف وحمله من غير المتوضئ وتحريم ذلك على الجنب والحائض قبل الاغتسال الشرعى إلا بعذر مسوغ. وكان اختيار المصريين لهذا المذهب جمعًا بين مقصد رفع الحرج عن غير المتوضئ لمشقة تحرزه خاصة مع كثرة نسخ المصاحف بسبب انتشار الطباعة، وبين مقصد إجلال المصحف أن يحمله الجنب أو الحائض، ولا مشقة على أحدهما أن يترك مس المصحف أو حمله قبل التطهر لندرة هذا الحدث الأكبر بالنسبة للحدث الأصغر.

وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذى يرى منع المحدث مطلقًا من مس المصحف أو حمله لما فيه من حرج. ولم يمنعهم من تركه كثرة القائلين به؛ لأن الحق فى الاختيار من بين الأقوال الفقهية مكفول شرعًا بحسب المصلحة دون فزاعة الجمهور.

ولم يكن ترك المصريين لمذهب الجمهور الموجب للطهارة من الحدثين عند مس المصحف أو حمله بحثًا عن الأيسر دائمًا بدليل أنهم تركوا مذهب الظاهرية الذى أجاز للجنب والحائض مس المصحف وحمله، وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على تحمل المصريين لمسؤوليتهم الدينية دون التبعية العمياء، فقد أخرج الترمذى وقال حسن غريب عن حذيفة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا».








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 7

عدد الردود 0

بواسطة:

أحمد العقدة

البلاغة الإيجاز

عدد الردود 0

بواسطة:

داليا

تبسيط المعلومة بلغه تجيز لعامة الناس استيعاب المعني

عدد الردود 0

بواسطة:

ايهاب

لي تعقيب يا مولانا

عدد الردود 0

بواسطة:

يوسف المصرى

اختلف مع الاخوة المعلقين فهكذا يجب ان تشرح الفتوى

عدد الردود 0

بواسطة:

ام يوسف

جزاك الله كل خير

عدد الردود 0

بواسطة:

عادل حزين

مع عدم المؤاخذة

عدد الردود 0

بواسطة:

Badr Eddine

شكراً Dr

شكراً Dr، فأمّا عن طهارة القلب...

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة