سعد الدين الهلالى

بيت العدة للأرملة «2»

الإثنين، 11 نوفمبر 2013 07:17 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سبق أن ذكرنا اختلاف الفقهاء فى تحديد البيت الذى تقيم فيه الأرملة - التى مات عنها زوجها - مدة عدتها، وذلك على ثلاثة مذاهب. وبينا المذهب الأول الذى قال به جمهور الفقهاء، وهو أنه يجب على الأرملة أن تقضى عدتها فى بيت الزوجية حصريًا.. ونكمل فيما يلى مذاهب الفقهاء واختيار المصريين.

المذهب الثانى: يرى أنه يجب على الأرملة أن تقضى عدتها فى البيت الذى أتاها فيه نعى زوجها، فلا تبرح من مكانها الذى أتاها فيه خبر موت زوجها، سواء كان هو بيت الزوجية أو غيره من البيوت التى تصلح للمبيت. فإذا كانت فى طريق عام فعليها أن تعتد فى أقرب بيت يمكن أن تبقى فيه مدة عدتها. وهو قول إبراهيم النخعى وسعيد بن المسيب واختاره ابن حبان.. وحجتهم:

1 - ظاهر النص الآمر بالعدة فور وفاة الزوج فى قوله تعالى: «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا» «البقرة: 234».. ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر من مات عنها زوجها أن تبدأ العدة بمجرد وفاة الزوج، وهذه البداية تنسحب على الزمان والمكان معًا، فإذا كان الزمان هو من لحظة الوفاة الأولى فإن المكان هو الذى جاء فيه خبر النعى؛ لأن الواجب يكون من ساعة العلم.

2 - ما أخرجه ابن حبان بإسناد صحيح من حديث الفريعة بنت مالك وترجم له بقوله: ذكر الأمر بالاعتداد للمتوفى عنها زوجها فى البيت الذى جاء فيه نعيه، أن زوج الفريعة كان فى قرية من قرى المدينة وأنه تبع أعلاجا «أعداء من غير المسلمين» فقتلوه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الوحشة، وذكرت أنها فى منزل ليس لها، وأنها استأذنته أن تأتى إخوتها بالمدينة. فأذن لها ثم أعادها ثم قال لها: «امكثى فى بيتك الذى جاء فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله».

المذهب الثالث: يرى أنه ليس للأرملة بيت معين تقضى فيه عدتها وجوبًا، بل عليها أن تقضى عدتها حيث شاءت من البيوت، فلها أن تختار بيت الزوجية إن رأت مصلحتها فيه، فهو حقها لتحصينها من الطرد فى حدث مفاجئ لم تتحسب له، وليس واجبًا عليها.. ولها أن تعتد فى أى بيت ترى فيه راحتها، ولها أن تنتقل وأن تسافر حيث شاءت ما لم يكن إثمًا فى ذاته كسفر المعصية. وهو مذهب الظاهرية قال به ابن حزم وحكاه عن إمام مذهبه أبى سليمان داود بن على وجميع أصحابه الظاهريين، وقد سبقهم إلى هذا المذهب من الصحابة على وابن عباس وجابر بن عبدالله وعائشة.. ومن التابعين جابر بن زيد والحسن البصرى وعطاء وطاووس وروى عن عمر بن عبدالعزيز.. وحجتهم:

1 - أن النهى القرآنى عن إخراج المرأة أو خروجها فى مدة العدة من بيتها خاص بالمطلقة رجعياً، كما هو ظاهر من سياق النص القرآنى فى قوله تعالى: «يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة» إلى قوله تعالى: «فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف».. «الطلاق:1-2».. ويؤكد اختصاص هذا النص بالمطلقة رجعيًا ما أخرجه عبدالرزاق بسنده عن فاطمة بنت قيس أنها فسرت قوله تعالى: «لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن».. «الطلاق:1»، بالمطلقة رجعيًا.. أما المطلقة طلاقاً بائناً وفى حكمها المتوفى عنها زوجها فليس لها حق فى السكنى ولا فى النفقة؛ لما أخرجه مسلم عن فاطمة بنت قيس، أن زوجها طلقها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة. وفى رواية عنها، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى المطلقة ثلاثًا: «ليس لها سكنى ولا نفقة».

2 - أن الله تعالى نفى الجناح عن خروج الأرملة فى عدتها من بيت الزوجية، وجعل إقامتها فيه حقًا لها وليس واجبًا عليها، وذلك فى قوله سبحانه: «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم».. «البقرة:240».. قالوا: فهذه الآية محكمة وليست منسوخة؛ لأنها لم تتعرض لمدة عدة الأرملة وإنما هى داعية إلى الوصاة بالزوجات أن يمكنّ من السكنى فى بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك، ولهذا قال: «وصية لأزواجهم»، أى يوصيكم الله بهن وصية. وأما على قول الجمهور الذى يرى نسخ هذه الآية بقوله سبحانه: «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً.. فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير».. «البقرة:234».. فهذا النسخ خاص بمدة العدة وليس فى سائر أحكامها، فمن أحكام العدة التى لم تنسخ اختيار المرأة بيت العدة لظاهر قوله تعالى: «متاعاً إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فى ما فعلن فى أنفسهن من معروف».. «البقرة:240».. فقد أخرج البخارى عن ابن عباس قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى: «غير إخراج».. قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت فى وصيتها، وإن شاءت خرجت لقوله تعالى: «فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن من معروف».. قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها.

3 - أن الآية المحكمة بتقدير عدة الأرملة بأربعة أشهر وعشرة أيام لم تحدد مكان العدة، فلا يجوز التحديد بغير دليل.. فقد أخرج عبدالرزاق فى مصنفه عن ابن عباس قال: إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يقل تعتد فى بيتها.. تعتد حيث شاءت.

4 - أن كثيرا من السلف الصالح قال بحق الأرملة فى قضاء العدة حيث شاءت، وحقها فى التنقل أثناء العدة، وهم لا يقولون ذلك إلا عند توقيف لحسن الظن بهم، فكان قولهم حجة. ومن ذلك ما أخرجه ابن أبى شيبة وعبدالرزاق عن ابن عباس وجابر قالا: تعتد المتوفى عنها زوجها حيث شاءت. وأخرج عبدالرزاق عن عطاء قال: لا يضر المتوفى عنها أين اعتدت. وأخرج عبدالرزاق عن عروة قال: خرجت عائشة بأختها أم كلثوم حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيد الله إلى مكة فى عمرة. قال عروة: كانت عائشة تفتى المتوفى عنها زوجها بالخروج فى عدتها. وأخرج عبدالرزاق عن طاووس وعطاء قالا: المتوفى عنها والمبتوتة تحجان وتعتمران وتنتقلان وتبيتان.

5 - أن الزوج إذا مات صارت أمواله تركة تقسم ميراثا ولم يصح فى وجوب السكنى للمتوفى عنها زوجها أثر أصلا، فلو كان الواجب على الأرملة أن تعتد فى بيت الزوجية لكان هذا مانعاً من قسمة الميراث فى تلك العدة وذلك إذا كان بيت الزوجية مملوكا للزوج، ولم يقل بذلك أحد. ثم إن منزل الزوجية لا يخلو أن يكون ملكاً للميت أو ملكاً لغيره. فإن كان ملكاً لغيره كالمستأجر فلا يحل لأحد سكناه إلا بإذن صاحبه، وإن كان ملكاً للميت فقد صار للغرماء أو للورثة أو للوصية، فلم يكن للأرملة إلا مقدار ميراثها إن كانت وارثة، وما عدا هذا فظلم، وأكل لمال الغير بالباطل.

وقد بدأ المصريون فى اختيار مذهب بعض السلف منهم على وابن عباس وجابر وعائشة والحسن البصرى وعطاء وطاووس، وهو ما عليه الظاهرية الذين قالوا بأن الأرملة تعتد حيث شاءت، وذلك بعد تعقد طرق المعايش بما يحول دون تمكن الأرامل من العيش وحدهن، خاصة بعد تفرق الأبناء البالغين فى البلاد بحثاً عن سعة الرزق وتقاسمهم استضافة أمهاتهم، وغير ذلك من أعذار اجتماعية تحرج الأرملة إن قضت عدتها فى بيت الزوجية. وكان المصريون قد بدأوا فى ترك مذهب الجمهور الذى يرى وجوب تربص الأرملة فى بيت الزوجية حصرياً مدة العدة بعد تعقد الحياة الاقتصادية والاجتماعية بما يسبب حرجًا للأسر إن تركوا أراملهم يتربصن فى بيت الزوجية، الذى لم يعد فيه أحد، والدين لا يعرف الحرج.

وقد فقه المصريون أن مذهب الجمهور ليس دينًا قاطعًا يتوقف عنده، وإنما هو فقه يحتمل الخطأ، ولأن مذهب المخالفين للجمهور من الظاهرية وبعض السلف مقطوع بفقهه الذى يحتمل الصواب، فكان من حق عموم المسلمين الاختيار من بين تلك الأوجه الفقهية دون غضاضة؛ عملاً بسعة الإسلام ويسره فيما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك».








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة