معصوم مرزوق

«الحشاشون» وتزييف الوعى

السبت، 05 يناير 2013 11:40 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى بداية القرن العاشر الميلادى ظهرت فى بلاد فارس طائفة إسماعيلية منشقة على الفاطميين، وكانت تقوم بأعمال قتل واغتيالات ضد السلاجقة والأيوبيين، وكانت لهم محاولات غير ناجحة لاغتيال صلاح الدين الأيوبى، وكان زعيم هذه الطائفة ومرشدها يسكن فوق جبل فى قلعة محصنة يصعب الاقتراب منها.. وكان حسن الصباح أشهر هؤلاء القادة. كانت هذه القلعة والمنطقة المحيطة بها تمتلئ بالحدائق الغناء والمجارى المائية والنساء بالشكل الذى كان يتيح للقادة أن يصوروا لأتباعهم أنهم يعيشون فى الجنة، وكانوا بالفعل تحت تأثير مخدر الحشيش يتوهمون أنهم فى الجنة، فيندفعون لتنفيذ المهام المكلفين بها بكل حماس وجرأة، وقد كتب عنهم الرحالة الشهير ماركو بولو، وكان أول من أطلق عليهم اسم «الحشاشون» التى تحورت لتصبح بالإنجليزية «assassin».
منذ عام كتبت فى مثل هذه الأيام بالنص أنه قد لا يروق حديثى هذا للبعض، ولكن لا خير فىّ إن لم أقله، وذلك بشأن مسألة تزييف صندوق الانتخابات، ولكى ندخل فى الموضوع مباشرة، أود أن أحدد أولاً أن «الصندوق» الذى أعنيه هو «صندوق التصويت»، تلك الأداة السحرية التى تختزن آمال وأحلام جماعة بشرية فى غد أفضل، أما الوعى فهو جماع الثقافة السياسية والظروف الاجتماعية والاقتصادية وحال النخبة المعتبرة فى إدراك المواطن.
يعرف الجميع ماذا يعنى تزييف الصندوق، وذلك من طول ممارسة ومعاشرة، بدءًا من شراء الصوت الانتخابى وانتهاءً بسرقة وتبديل صناديق التصويت نفسها، ولأن ذلك النوع من «التزييف» معلوم لم يجد المصرى فيه دافعًا كى يكبد نفسه مشقة الإدلاء بصوته، وترك للإدارة «الرشيدة» القيام بهذا الدور نيابة عنه سنوات بلا عدد، وأصبح الشعب المصرى شعبًا بلا صوت أو بالأحرى شعبًا بصوت مزيف، انتشر هذا الزيف وعشعش مثل الخلايا السرطانية حتى ظن الناس أنه لا فكاك منه، فاعتادوه وألفوه وصار جزءًا من الكاتالوج السياسى والاجتماعى، حيث تسرب الزيف من تزييف الصوت إلى تزييف الوعى من خلال نخب قادرة واعرة داعرة نجحت فى التسرب عبر شقوق وعيوب المجتمع حتى احتلت القمة، ونصبت خيامها هناك كى تمارس دجل السياسة وشعوذة الثقافة وسحر البيان.
ولكى تتغير مصر لم يكن يكفى إزاحة الحاكم وأركان نظامه، بل كان لابد من اقتلاع النظام نفسه بكل جذوره العفنة التى انتشرت فى التربة المصرية فلوثتها، ومن أسف أن يتصدر المشهد الثورى الدافق بعض هؤلاء الذين عاشوا وتعايشوا، اقتاتوا وبشروا فى زمن تزييف الصناديق، وفى عقد الصفقات مع الحزب الحاكم، وها هم يتسلقون كاللبلاب جدران الثورة كى يواصلوا مهمتهم غير المقدسة، ولكن هذه المرة فى تزييف الوعى.
إن المواطن حين يقف وحيدًا أمام صندوق الانتخاب وفى يده تذكرته الانتخابية، يكون قراره فى التصويت نتاج عوامل كثيرة أبرزها ثقافته السياسية ومدى وعيه بمصالحه ورؤيته للمستقبل، ويدخل فى تشكيل هذه العوامل للأسف ما يسمعه المواطن أو يقرؤه فى وسائل الإعلام المختلفة وفى محيطه الاجتماعى، وهو يتأثر إلى حد كبير بآراء النخب السياسية والثقافية، مثل مريض يلتمس الشفاء من خلال ثقته فى طبيب معين، يثق فى علمه وأمانته أو ما يشاع عن ذلك، فإذا كان الحال كما قدمنا، فإن أغلب «الأطباء» إن لم يكن كلهم هم نتاج مراحل تراكمية من تزييف الصناديق، لدرجة أنهم قد وجدوا أن ممارسة السحر والدجل والشعوذة السياسية أكثر ربحًا وجاذبية، واعتادوا ذلك واحترفوه. وإذا كان تزييف الصناديق واقعة مادية يمكن رصدها وحصرها، فإن تزييف الوعى يصعب الإمساك به وتسليط الضوء عليه، لأنه يتسلل عبر تخدير العقل الجمعى وقيادته تدريجيّا للوصول إلى نفس نتيجة تزييف الصناديق وربما إلى ما هو أشد مرارة.
إن بعض الشعارات التى يرفعها مثلاً أغلب المرشحين فى الانتخابات، وما يتم الترويج له من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يبدو وكأنه إعادة إنتاج لمرحلة تزييف الصناديق ولكن بشكل جديد، ومن المدهش أنها نفس الوجوه وذات الأقلام والشعارات، فيما تغيرت موازين اللعبة.
إن إيران لم تنفرد فقط بظاهرة «الحشاشون»، بل قدمت للعالم نموذجاً لما يسمى بالثورة الإسلامية، التى كان فيها حزب «تودة» الشيوعى الإيرانى، و«مجاهدى خلق» رفاق طريق مع آيات الله من الملالى فى الثورة على شاه إيران، ثم أصبحت أعناقهم فوق المشانق بعد نجاح الثورة.. ويجب أن نفهم أن «التقية» ليست حكرًا على أهل الشيعة، كما أن احتكار الحقيقة لا محل له فى العمل السياسى الحقيقى، ومن شأنه عرقلة نهضة الأمم، ومستقبل مصر رهن بمدى يقظة شبابها لمخاطر الانزلاق إلى «أحادية» الفكر، حتى ولو كان هذا الفكر متسربلاً بعمائم الدين أو بقبعات الغرب.
وإذا كان أتباع الشيخ «حسن الصباح» من «الحشاشون» كانوا يتحركون بتأثير مخدر الحشيش وهم يظنون أنهم يحسنون عملاً يرشحهم لجنات رضوان، فإن أتباع بعض الشيوخ فى العصر الحالى يتحركون بتأثير مخدرات الفكر التى تحولهم إلى كائنات عمياء صماء، وتدفعهم إلى ارتكاب حماقات قد تؤدى إلى تمزيق الوطن، بينما يتخيلون مصيرهم فى أنهار الجنة وعين الحور، دون أن يفكروا ولو للحظة واحدة أن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده.. ولا شك فى أنه لو بعث «حسن الصباح» إلى الحياة مرة أخرى فى زماننا لاندفع أتباعه المغيبون إلى صناديق التصويت وفقاً لتعليمات القائد وبغض النظر عن مصلحتهم الخاصة أو العامة.
إن التحديات التى تواجه مصر أكثر صعوبة وأشد تعقيدًا من أن يحمل أعباءها فصيل واحد، ولابد من الانتباه لمحاولات تزييف وعى الجماهير التى لا تقل خطورتها عن تزييف أصواتها، فلا توجد «شربة» واحدة لعلاج جميع الأوجاع، وحان الوقت لكف أيادى حلاقى الصحة كى يتقدم الأطباء الحقيقيون.. ولقد آن الأوان كى نقضى على إدمان المخدرات فى السياسة!








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة