أحمد إبراهيم الشريف يكتب:"السفر فى الأسود"تغريبة بين الصدى والكلام

الخميس، 06 سبتمبر 2012 12:16 م
أحمد إبراهيم الشريف يكتب:"السفر فى الأسود"تغريبة بين الصدى والكلام غلاف الديوان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء


الشعراء عادة ما يبحثون خلف الحروف عن معانٍ جديدة تليق بذواتهم التى لا تستقر، والتى يدفعها الفضول أو القهر للبحث عن خصائصها الشاعرة تحت ركام الحياة الخبيثة.. يقلبون الحروف التى يملكونها بحثا عن إحساس جديد ورؤية جديدة.. وأحيانا قد يحتاجون لرحلة يعودون منها بمفاهيم جديدة وتنويعات مختلفة من خلال جدالهم الدائم مع ما تنتجه الكلمات من علاقات..

"السفر فى الأسود" ديوان شعرى يحمل سمات مغايرة، وهو الديوان الثانى للشاعر محمد منصور، وقد حصل من خلاله منصور على جائزة الدولة التشجيعية لهذا العام، وكان قد سبق له ديوان "الأرض تشربها الدماء".. و"السفر فى الأسود" ديوان يقدس الرحلة، حيث يرحل الشاعر/ الغريب/ المسافر/ الوجودى/ الشاك/ المتأكد/ الإنسان بحثا عن تفاصيله الصغيرة.. عن ذاته التى لا يعرفها بعد.. فى رحلة تجمع بين الشك والشوك فى صحراء نفسه.. متسلحا بالاشىء سوى إنكاره، ومعتمدا الصمت رغم الحروف والمعانى التى تحيط به، فى رحلة للبحث عن اختصار المسافة بين الصدى والكلام.

بداية نحدد أن الديوان قصيدة طويلة ممتلئة باللغة والصورة والفلسفة الوجودية والأسئلة الشائكة حول الإنسان واللغة والمفاهيم.. لكنها لا تحفل بالإجابات الجاهزة ولا حتى الإجابات الخاصة، بل يكون السؤال غاية فى حد ذاته، وتكون المعانى وجهة نظر.. وتعوض القصيدة ذلك بالحوار الذى عادة ما ينتهى أيضا بأسئلة حائرة.. فالقصيدة تصطاد لحظة مفارقة هى الرحلة/ الغربة فى صحراء لا يعرف مبتداها ولا منتهاها سوى الشعر.. غربة تشترط ألا يأتى الغد، ولا يبين، ولكن نظل نترقبه.

مع الديوان ومنذ جملته الشعرية الأولى نقفز مع منصور إلى ذروة المشهد مباشرة.. فالمسافر فى انتظار قافلة لا تجىء، لذا قرر الدخول للرحلة منفرداً.. وها هو على حافة الصحراء ليس معه سوى صديقه الذى اختاره بداية.. وذلك لأنه يمارس حياته معترفا بقوانين الصحراء العادلة.. إنه الذئب.. " فهو صديقى الوحيد/ صديقى الوحيد الذى يستطيع ممارسة الصيد معترفا بالقوانين/ فالعين بالعين والسن بالسن" بما يرتبط به من تحدٍ وشراسة وحب الظلام وكراهية الضوء الفاضح الكاشف الذى يجعله ضئيلا فى هذه الصحراء.. وفى الطريق ينضم إليه أصدقاء جدد منهم: الذات والحروف والمعانى والجبل والسيل والبحر والخيال والنار والريح..إلخ، أصدقاء دائمون وأصدقاء مؤقتون.. أصدقاء حقيقيون وأصدقاء افتراضيون اقتضتهم القصيدة الشائكة التى تقصد الرحلة ذاتها ولا تقصد الوصول المباشر.


يقوم الديوان على كثير من الثنائيات التى تبدو للوهلة الأولى متناقضة مثل: العلاقة بين الذئب والشاة والعلاقة بين الصحراء والبحر وبين الجبل والسيل...إلخ، هذه الثنائيات فى ظاهرها يبدو التناقض الذى قد يصل فى حده للمفارقة إلى الوجود فى مقابل العدم وإلى الحياة فى مقابل الموت.. لكن القصيدة فى رحلتها الدائمة للوصول لمسافة بين الصدى والكلام تعرف أن العلاقات ليست كما تبدو دائما للعيان، فالشاة هى أم الذئب الذى يحن إليها دونما وعى "فما دامت الشاة/ كامنة فى بطون الذئاب/ سيكبر ذئب يحن إلى أمه الشاة"، وهى بدورها تسعى كى تكون أما له "تعرف أن مطاردة الذئب/ تمنحها فرصة كى تكون طعام الصغار/ إذن فلتكن للصغار طعاما.."، والصحراء هى التى تحدد قيمة البحر فلا يتناقضان بل يتكاملان فالصحراء تستمد قوتها وتوحشها من رقة البحر الذى يستمد خطره من انبساط الصحراء ودفئها.. وحتى صفات المسافر الغريب امتلأت بالثنائيات "وصرت أنا/ الأول الآخر/ الظاهر الباطن/ الآثم التائب/ الجاهل العالم/ الآمن الخائف/ الذاهب الآيب/ التائه العائد/ الواضح الغامض/ الخارج المتسلط/ والصابر المتهور/ والمنتمى للقصيدة واللغة الكاشفة.." فى هذه الثنائيات التى تبدو متناقضة على أن يحملها شخص واحد حتى لو كان غريبا مسافرا اتسعت رؤيته فى تلك الصحراء المتسعة.. لكن فى مجمل هذه الصفات يكمن اتحاد الإنسانى بالمقدس فى سبيل الوصول لصورة الإنسان المهموم بذاته.

عابرو الصحراء هم الأصدقاء الحقيقيون للمسافر الغريب.. هؤلاء الغرباء أيضا مهمومون ببحثهم عن الوجود وعن معنى الوجود.. يعبرون الصحراء خوفا وطمعا.. يبحثون عن أنفسهم.. وفى المقابل تبحث النبوة عنهم فى تلك الصحراء الغريبة.. وقد كان الخليل إبراهيم هو أول المارين المسافرين فى هذه الصحراء المشتركة، يمر فى ليلهما البارد المشترك، فيبعث بصورة النار تحمل شقى المعرفة والابتلاء "إذن/ من سيركض مثلى إلى النار/ حتى يرى ما رآه الخليل".. بينما موسى سيد العابرين الخائفين "خائفا يترقب" الباحثين عن أنفسهم.. ابن سيناء التى عمدته ابنها الغريب ووهبته المعرفة، كان يبحث عن وجه الله المطل عليه.. وكان يبغى الوصول إلى شىء لا يعرفه بعد، فاستعان بجنود الصحراء "من يستطيع سوى الريح أن يشطر البحر نصفين حتى يعود الغريب إلى أهله"، واستعان بالخيال "المسافر يعرف أن الخيال/ رفيق الطريق الذى لا يغيب عن القلب/ يعرف أن الخيال/ كلام الحواس/ إذا فقدت فى الليل اتجاهاتها".. أما عيسى فيلتقيان معا فى اليتم القديم بحيث يتشابه معه فى أنهم ينادونه باسم أمه فلا يخطئون النداء.

ويحفل منصور بالإيقاع وهو - هنا- ليس حلية ولا حتى التزاما ببناء القصيدة.. إنما اقتضته طبيعة الديوان: بيئته ولغته وحالته النفسية والتيه والغربة والخوف الذى يسيطر على الديوان.. كل ذلك دعا المسافر الغريب الخائف الوحيد أن يكون الإيقاع أساسا فى قصيدته.. فهو فى رحلته عبر الصحراء يحتاج للإيقاع "فغنِّ../ على الرغم من لذة الصمت غنِّ/ بإمكان من يتغرب عن نفسه/ أن يغنى/ لكى يتوكأ وهو يغنى على صمته/ فى الطريق إلى نفسه/ فلتغنّ".. كأنه حادى جمال فى الطريق الممتد التى لا يعرف نهايتها بعد.. لذا يعمد إلى الجمل القصيرة والأصوات ذات الحروف الرنانة كى يصنع صدى يؤنس به وحشته فى تلك الصحراء ..
فى النهاية نقول: منصور يملك معجمه الشعرى الخاص ويعرف الطريق إلى قصيدته.. ويعود بنا إلى فطرتنا الأولى وإلى الطبيعة على أساس أنها جزء منا.. فنجد أن المكان يتجاوب مع كائناته يتحاور معها ويشاركها لغته.. ونظل نحن جميعا قيد لهفتنا فى انتظار القصيدة.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة