صلاح عيسى

بكائية فى وداع السلطانة «نسل شاه»

الخميس، 12 أبريل 2012 09:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان المرحوم أبى يقرأ كل صباح جريدة «الأهرام» بترتيب لم أره يوما يغيره، فبعد أن يقرأ أهم الأخبار السياسية فى الصفحة الأولى ينتقل فوراً إلى الصفحة قبل الأخيرة، ليقرأ صفحة الوفيات ويعرف أنباء الذين غادروا عالمنا، ويقرر هل يرتدى رباط العنق الأسود الذى يليق بالسير فى الجنازة أم يخرج برباط ملون كالعادة، وفى أحيان ليست كثيرة كان يحدثنا عن فضائل الراحل الكريم الذى يكون عادة صديقاً قديماً عمل معه، مرؤوسا أو رئيسا، وعلى العكس منه كنت أنتقل من صفحة «الأهرام» الأولى إلى صفحتها الأخيرة لأقرأ أعمدة كبار الكتّاب أو أخبار الفن والأدب ولا أطل على صفحة الوفيات إلا إذا لفت نظرى نعى شخصية بارزة أو عدد كبير من المشاطرات توحى بأن هناك قريباً لإحدى الشخصيات السياسية المسؤولة قد غادر دنيانا، فأقرأ الاثنين بتمعن إذ كانت تلك إحدى الوسائل التى يلجأ إليها جيلنا من اليساريين المشتغلين بالسياسة لمعرفة الخريطة العائلية للطبقة الحاكمة، وهى معرفة كنا نستغلها فى تحليلاتنا – وبالتالى مواقفنا – السياسية من النظام القائم.
وكانت صفحة وفيات «الأهرام»، ولاتزال إحدى السمات المميزة لأقدم الصحف العربية، فهى أول – وآخر – صحيفة فى العالم تخصص صفحة لإعلانات الوفيات وتواصل نشرها على امتداد ما يقرب من قرن، وتتوسع فى مساحتها حتى أصبحت تشغل أحيانا ثلاث أو أربع صفحات، وفشلت كل المحاولات التى بذلتها الصحف المصرية المنافسة لكسر احتكار «الأهرام» لأخبار الذين يغادرون الدنيا على الرغم مما قدمته من إغراءات كان من أطرفها محاولة قام بها «د. سيد أبوالنجا» حين حاول فى بداية خمسينيات القرن الماضى أن يدخل جريدة «المصرى» – التى كان يتولى إدارتها – سوق إعلانات الوفيات منافسة لـ«الأهرام» فخفض سعر الكلمة فى الإعلان إلى ملاليم بدلا من قروش، وأجرى تخفيضات على الإعلان الذى يزيد على عشرين سطراً، ومع ذلك ظلت «الأهرام» تكتسح السوق فلم يجد حلا إلا بالاتفاق مع أحد موظفى إدارة إعلانات «الأهرام» ليزوده مقابل أجر أو رشوة - بصورة من الإعلانات التى ترد إليها، فيقوم بنشرها مجاناً على صفحات «المصرى»، ولكن هذا النشر المجانى لم يشكل أى إغراء لأهل الموتى، إذ كان قد استقر فى أذهان الجميع جيلا بعد جيل، أن «الأهرام» ليست فقط «ديوان الحياة المصرية المعاصرة» – كما كان يسجلها المؤرخ الراحل د. يونان لبيب رزق – ولكنها كذلك «ديوان الموتى من المصريين»، وأن نشر إعلان وفاة شخص على صفحة الوفيات منه، هو دليل على بروز مكانته ومكانة أسرته الاجتماعية حتى شاع، تندرا، القول بأن الذى لا تنشر «الأهرام» نعيه، لم يمت بعد..
وهكذا فشلت محاولة «سيد أبوالنجا» واكتشفت «الأهرام» خيانة الموظف المرتشى ففصلته، وحين ذهب إلى مدير «المصرى» يطلب تعيينه به، قال له: إن الفتاة التى تسلم نفسها قبل الزواج ليس من حقها أن تطالب به! وكانت إعلانات وفيات «الأهرام» ولا تزال ترمومتراً للمكانة السياسية للشخصيات ذات النفوذ، فحين يموت قريب ولو من الدرجة الثالثة لأحد كبار المسؤولين وهو لا يزال فى منصبه يتدافع العاملون تحت رئاسته، أو الذين يتعاملون مع المناصب التى يشغلها إلى نشر إعلانات المشاطرة لتنشر تحت نعى الأسرة ويملأون صفحة أو صفحات الوفيات لأيام متواصلة، فإذا مات هو نفسه بعد أن يغادر منصبه بسنوات أو شهور لم يشاطر أحد أسرته الحزن لوفاته، ولو بإعلان من سطر واحد، ولم يدع الله بأن يسكنه فسيح جناته، ولم يكن نادراً أن تخضع الإعلانات للرقابة على الصحف، لأسباب تضطر الرقيب لقراءتها وشطب ما يخالف التعليمات منها بقلمه الأحمر وفى بعض المراحل التاريخية، صدرت تعليمات للرقباء ولقسم الوفيات بـ«الأهرام» وغيرها من الصحف تعليمات بعدم نشر وظائف أو رتب العاملين فى أجهزة الأمن السياسى مثل مباحث أمن الدولة والمخابرات العامة والمخابرات العسكرية حتى لا يكونوا هدفا لمن تهمه هذه المعلومات. وبعد الثورة، ألغيت الألقاب المدنية التى كان ينعم بها العهد الملكى البائد على عدد من الأعيان والشخصيات البارزة، فى عيد ميلاد الملك أو عيد جلوسه على العرش ومنها لقب «بك» و«باشا»، لكن أسر الراحلين من هؤلاء أصرت على أن تحتفظ لهم بهذه الألقاب عند نشر إعلان وفاة كل منهم على صفحات «الأهرام» باعتبارها حقا مكتسبا، وبعد مشاورات جرى الاتفاق على أن إعلان الوفاة، تتصدره عبارة «انتقل إلى رحمة الله فلان الفلانى باشا سابقا» وأن يتضمن سطورا من نوع أنه ابن عم فلان بك سابقا، وخال حسنين باشا سابقا.. مع أن الجميع كانوا قد أصبحوا بأشخاصهم ورتبهم فى الحالة سابقا!
أما السبب الذى دفعنى لهذه الفذلكة التاريخية فهو إعلان نشرته صفحة الوفيات بجريدة «الأهرام» يوم الثلاثاء 3 إبريل الحالى، يتضمن خبر وفاة سمو السلطانة نسل شاه حرم الأمير «محمد عبدالمنعم» الوصى على عرش مصر سابقا ابن الخديو عباس حلمى الثانى.. ابنة سمو الشاه «زاد عمر فاروق» ابن الخليفة «عبدالمجيد» وسمو السلطانة صبيحة ابنة السلطان وحيد الدين خان الخامس، ووالدة الأمير عباس حلمى والأميرة إقبال وأخت السلطانة هان زاده والسلطانة هبة الله نجلاء. وهو إعلان ما كدت أقرأه حتى فعلت كما كان يفعل أبى، فمصمصت بشفتى ودعوت للراحلة بالرحمة، إذ لم أكن أعرف أن السيدة الجميلة التى كانت الصحف تنشر صورها فى بداية الخمسينيات والتى جلست على عرش مصر لمدة أحد عشر شهرا، عندما كان زوجها الأمير «محمد عبدالمنعم» وصيا على عرش الملك الطفل أحمد فؤاد الثانى انتهت بإعلان الجمهورية فى 18 يونيو 1953، ليفقد الملك عرشه، ويفقد الوصى وزوجته آخر موقع لهما فى السلطة لا تزال على قيد الحياة.. وحمدت الله لأننى لم أشاهد صورتها وهى فى شيخوختها حتى لا تضيع من ذاكرتى صورتها الجميلة فى شبابها وشبابى الراحل.
أما الذى أدهشنى فهو أن أحفاد سمو السلطانة «نسل شاه» الذين نشروا الإعلان قد احتفظوا للراحلة بلقبها الذى كانت تحمله حين كانت تركيا سلطنة، واحتفظت لأبيها بلقبه الشاهنشاهى ولجدها بلقب الخلافة، ولجدتها بلقب السلطنة ولزوجها وأبنائها بألقابهم المصرية كأمراء، ولم ترد كلمة سابقا فى الإعلان الذى نشروه إلاّ عند الإشارة إلى منصب الزوج.. وأن الأسرة فضلا عن ذلك حرصت على أن تنشر الإعلان فى «الأهرام» على الرغم من أنها غادرت مصر منذ ما يقرب من ستين عاما، وكأنها تؤكد الحقيقة التى تقول إن الذى لا تنشر الأهرام نعيه.. لم يمت!








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

أحمد المصرى

صلاح عيسى

عدد الردود 0

بواسطة:

قادة

رائع جدا

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة