صلاح عيسى

كأس من ماء «نهر الجنون»!

الخميس، 09 فبراير 2012 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
اختنقت من سحائب دخان القنابل المسيلة للدموع التى تصاعدت على امتداد الأسبوع الماضى من شاشات التليفزيون فى أعقاب كارثة كرة القدم التى جرت فى بورسعيد، وما اختلط بها من دم ودموع وتحطيم ضلوع، وما نتج عنها من مظاهرات واعتصامات وتحليلات، وبدا لى أن مسًا من الجنون قد أصابنا جميعا.. فتذكرت- من دون مناسبة- مسرحية من فصل واحد كتبها توفيق الحكيم فى ثلاثينيات القرن الماضى بعنوان «نهر الجنون»، وبطل المسرحية ملك من ملوك العصور الغابرة.. رأى فى الحلم ذات ليلة،

النهر فى بلاده بلون الفجر، وفجأة هبطت من السماء أفاع سوداء وفى أنيابها سم تسكبه فى النهر، فيصبح فى لون الليل، وهتف به من يقول «حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون»، ومع أنه حذر الناس فى بلاده،

من الاقتراب من ماء النهر وأوصاهم أن يشربوا من نبيذ الكروم، إلا أنهم لم يستمعوا لنصحه، فلم يبق عازفا عن ماء النهر إلا هو ووزيره، الذى يدخل عليه ـ مع افتتاح الستار ـ فى بهو الأعمدة بقصره، ليسوق إليه خبرا مريعا، هو أن قضاء الله وقع، فشربت الملكة ووصائفها وجواريها من نهر الجنون، فبدت عليهن أماراته، وأنه ما كاد يقبل عليها حتى استقبلته فى روع، ونظرت إليه وصائفها نظرة الممرورات. ويعبر الملك عن حزنه العميق لذهاب عقل الملكة الراجح وانطفاء ذهنها الذى كان - كما قال - يلمع فى سماء المملكة،

ويطلب من وزيره أن يبحث لها عن دواء لدى رأس الأطباء، فيخبره أن رأس الرجل - الذى كان نابغة زمانه - قد طار شعاعًا مع رؤوس الذين شربوا من نهر الجنون، وأنه رآه بين يدى الملكة وقد تغيرت نظراته وحركاته.. يهز رأسه هزًا لا معنى له كلما التقت عيناه بعينى الوزير.. أما وقد أصيب رأس رئيس الأطباء بالجنون، فإن الملك لا يجد مفرا من أن يطلب من الوزير أن يلجأ إلى كبير الكهان، لعله يجد لديه علاجا لجنون الملكة فيجابهه بالحقيقة المرة، وهو أنه قد أصبح هو الآخر من الشاربين.. ويقول الملك «حتى كبير الكهان أصيب بالجنون وهو أحسن الناس رأيا وأبعدهم نظرا وأثبتهم إيمانا وأطهرهم قلبا وأدناهم إلى السماء.. إنها كارثة شاملة، ليس لها من نظير لا فى التواريخ ولا فى الأساطير، مملكة بأسرها قد أصابها الجنون دفعة واحدة،

لم يبق بها ناعم بعقله إلا الملك والوزير».. أما وقد اكتشف الملك أن السماء قد استثنته هو والوزير من قدر الجنون الذى أصاب الجميع وحبتهما ـ وحدهما ـ بنعمة العقل، فهى خليقة بأن تستجيب لدعائهما.. وهى الملجأ الأخير الذى يستطيعان اللجوء إليه، لذلك يقترح على الوزير أن يذهبا إلى معبد القصر، ويرفعا أيديهما بالدعاء إلى السماء بأن تعيد للملكة والناس جميعا عقولهم. وما إن يتصرفا حتى تدخل الملكة ومعها رأس الأطباء وكبير الكهان، وهم يتحاورون عن الخطب الفادح والطامة الكبرى التى حلت بالمملكة فأفقدت الملك عقله، وأضاعت عقل الوزير.. وتسأل الملكة رأس الأطباء عن دواء يعيد إلى الاثنين عقليهما، فيعتذر لها بأن ما أصابهما لا يسعه علمه، ويدعوها ألا تيأس لأن هناك معجزات تهبط أحيانا من السماء هى فوق طب الأطباء، وتطلب من كبير الكهان أن يستنزل لها واحدة من تلك المعجزات فيعتذر لها بأن السماء ليست كالنخيل يستطيع الإنسان أن يستنزل ما شاء من ثمار،


وتحذرهما الملكة من أن يتسرب الخبر إلى الناس فيعرفوا أن ملكهم صاحب الرأى الحازم والرأى العاقل قد أصيب بالجنون.. وحين يعرف كبير الكهان من الملكة أن زوجها يذكر النهر فى فزع ويزعم أن ماءه مسموم، ولا يشرب إلا نبيذ الكروم، يرجح أن يكون الإدمان هو سبب جنونه، وينصحها بأن تمنع عنه الخمر، وتحمله على شرب ماء النهر، ويقترب الملك من البهو، فتأمرهما الملكة بالانصراف وتنفرد به، فيدور بينهما حوار يتعامل خلاله كل منهما مع الآخر، كما لو كان هو المجنون، ويتوهم كل منهما فى لحظة أن الآخر أدرك طبيعة مرضه، وتلك بداية الطريق للشفاء منه، إلى أن تنصح الملكة زوجها بأن يعود ليشرب من ماء النهر، فيتبدد الوهم.. ويعود كل منهما للتعامل مع الآخر باعتباره مجنونًا وتغادر الملكة البهو يائسة، ليدخل الوزير فيكمل فصول المأساة ويخطر الملك بأن عموم المجانين من أهل المدينة ورجال القصر يزعمون أنهم العقلاء،

ويتهامسون بأن الملك والوزير هما المصابان بالجنون.. ويقول الملك: يخيل إلىّ أن المجنون لا يشعر بأنه مجنون.. ويقول الوزير: صدقت.. ومهما يكن من أمر هؤلاء المجانين فإن الغلبة لهم.. بل إنهم وحدهم الذين يملكون الفصل بين العقل والجنون لأنهم هم البحر.. وما نحن الاثنان إلا حبتان من رمل. ويقترح الوزير على الملك أن يشربا من ماء النهر، ويقول له: لقد أزمعت أن أكون مجنونا مثل بقية الناس إذ ما قيمة العقل فى هذه المملكة من المجانين.. ويدور بين الاثنين حوار يحذر فيه الوزير الملك من ثورة هؤلاء المجانين ضدهما، فيقول الملك: ولكنى عاقل وهؤلاء الناس مجانين،

فيرد عليه الوزير: هم أيضا يزعمون هذا الزعم.. ويتساءل الملك: هكذا يجترءون على الحق.. فيقول الوزير: الحق والعدل والفضيلة أصبحت ملكا لهؤلاء الناس أيضا.. ومن الخير لك أن تعيش مع الملكة والناس فى تفاهم وصفاء ولو دفعت عقلك من أجل هذا ثمنا.. ويقنع الملك أن من الجنون ألا يختار الجنون.. ويطلب كأسا من ماء النهر، وكان ذلك ما اقتنعت به أنا أيضا.. وفعلته حين انتهيت من إعادة قراءة المسرحية ووجدت سحائب دخان القنابل المسيلة للدموع والدم وقذائف الحجارة، والتحليلات لا تزال تتصاعد من شاشات التليفزيون فقمت أبحث عن كأس من ماء النهر.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 8

عدد الردود 0

بواسطة:

fafy

فى صحتك

عدد الردود 0

بواسطة:

واحد شرب هو كمان

الشعب الذي يلعب

عدد الردود 0

بواسطة:

nehal

رسالة من حزب الكنبة

عدد الردود 0

بواسطة:

هلال مبروك

هنا صح قول أبو العلاء

عدد الردود 0

بواسطة:

احمد شعبان عبدالرازق / قنا

استاذ

استاذذذذذذذذذذذذذذذذذذذ

عدد الردود 0

بواسطة:

الشاهد

أبكيتنا يا استاذ

عدد الردود 0

بواسطة:

د. خالد سيف

النهر

عدد الردود 0

بواسطة:

bouchaib

المك ل الصحراء الغربية الحقيقي اسمه حفيظ

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة