صلاح عيسى

مساجين.. وممنوعات.. وفلول

الخميس، 16 فبراير 2012 09:55 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
على عكس ما قال خصومها لم تخطئ الإعلامية المتألقة منى الشاذلى حين قاطعت المتحدث الرسمى باسم وزارة الداخلية، الذى كان يؤكد لها أن هناك أجهزة لقطع الاتصالات تعمل فى الجناح الذى يضم زنازين أقطاب النظام السابق فى سجن مزرعة طرة، قائلة إنهم يتصلون بها وبزملائها هاتفيا من السجن، كما أن المتحدث باسم الوزارة لم يخطئ هو الآخر، أما المخطئ فهو الذى يتوهم أن قرار تشتيت ما كان يعرف بحكومة طرة بين عدد من السجون، سوف يحول بينهم وبين الاتصال بالخارج هاتفيا، أو عبر رسائل مكتوبة تصل إلى «منى الشاذلى» وإلى غيرها من الإعلاميين، بمن فى ذلك الذين اتخذوا مما قالته دليلا على أنها تحتفظ بصلة ود مع فلول النظام السابق.

تلك حقيقة يعرفها كل الذين دخلوا السجون لأسباب سياسية، فالسجن هو عالم من الممنوعات تحول بين السجين السياسى وبين ممارسة كل ما تعود عليه، وما لا يستطيع أن يعيش بدونه، من القراءة إلى الكتابة ومن المناقشة إلى الخطابة، وهو يعتقد عن حق أن هدف الذين يضعونه وراء القضبان هو أن يخضعوه لظروف تحوله من صاحب قضية إلى كائن بيولوجى لا هم له إلاّ أن يأكل ويشرب وينام ويعانى الملل، لذلك ينهض - بشكل واعٍ أو غير واعٍ - لتحدى الممنوعات ومخالفة التعليمات وابتكار الوسائل التى تمكنه من الاتصال بالخارج، ولهم فى ذلك أساليب يتناقلون خبرتها جيلا عن جيل وتيارا عن تيار، ويعرفها كذلك سجانوهم، خاصة إذا كانوا ممن انتقلوا من زنازين السجن إلى سدة الحكم.

فى السجون أسواق للتجارة السرية فى كل الممنوعات داخله وحتى خارجه، من الشاى والسكر والكتب والأوراق والأقلام والأمواس إلى الحشيش والويسكى وأقراص الهلوسة، وهى تجارة تديرها جماعات منظمة من المساجين، ويشارك فى تهريبها إلى داخل السجن جنود يفعلون ذلك لقاء أجر يتقاضونه، وفيه مخابئ يحفرها المساجين فى أرضية الزنازين أو فى جدرانها، ولهم حيل كثيرة للتغلب على خطة سجانيهم فى عزلهم عن الحياة منها الكتابة والقراءة.

وفى المكتبات الآن كتب كثيرة كتبها سياسيون وفنانون داخل السجون، من بينها ثلاثة كتب للعبدلله هى «الثورة العرابية» ورواية «مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا» ومجموعة قصص «جنرالات بلا جنود» ورواية «الشمندورة» للكاتب النوبى الراحل «محمد خليل قاسم» ورواية «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم فضلا على قصائد لعبدالرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد نجم وفؤاد حداد وعشرات من الدراسات الفكرية كانت تكتب ليلا بعد أن تغلق الزنازين على ورق «البافرة» الخفيف على ضوء شمعة تصنع من دهن الطعام، وتهرب إلى الخارج، عبر عمليات معقدة لتنشر، أو تظل مخطوطة إلى أن يفرج عن صاحبها.

وأول وأهم شىء يحرص السجين السياسـى على الاحتفاظ به من مقتنياته التى يدخل بها السجن، هو القلم والورقة، وغالبا ما ينجح صاحب الخبرة من المساجين فى تأمين سن قلم رصاص، وفى جمع أى ورقة صالحة للكتابة خاصة أغلفة علب السجائر، لكى يستخدمها فى الكتابة، وحين لا يجد يحفر على حوائط الزنزانة بمسمار ما يريد كتابته من أشعار وشعارات وتواريخ، يحسب بها أيام سجنه.

وأثناء حملة سبتمبر 1981 تقرر تشتيت المسجونين فيها، ونقل المنتمين للأحزاب السياسية إلى سجن ملحق مزرعة طرة - وهو السجن الذى انتقل إليه فى خطة تفريق حكومة طرة الأخوان علاء وجمال مبارك - ومضت عدة أسابيع لا نعرف شيئا عن أسباب اعتقالنا إلى أن فوجئت ذات صباح - وكنت مسؤولا عن شراء ما نحتاجه من كانتين سجن مزرعة طرة، المجاور - بالجندى الذى كان يجلب احتياجاتنا منه يسلمنى كيلو السكر الذى طلبته فى «قرطاس» كبير من ورق الصحف ما كدت أفتحه حتى وجدته عددا من جريدة «الأهرام» يضم نص خطاب الرئيس السادات الذى ألقاه بشأننا وكل القرارات الرسمية المتعلقة بالحملة، وقوائم بالأسماء الكاملة للمعتقلين، وعرفت أن الذى أرسل لنا هذه الهدية هو المناضل الديمقراطى الراحل «أحمد نبيل الهلالى» الذى كان مسؤولا عن كانتين سجن المزرعة، وعرف من الجنود الذين كانوا ينتقلون بين السجنين، مكاننا وأسماءنا وأن الصحف ممنوعة عنا، فقرر أن يرسل إلينا هذه التحية الإعلامية الكبيرة.

وحين اغتيل الرئيس السادات لم نعرف بالخبر إلا صباح اليوم التالى، ومضت أيام ونحن نكاد نموت فضولا لمعرفة التفاصيل، إلى أن نبهنى الأستاذ محمد حسنين هيكل حين كنت أوزع الطعام على المساجين، إلى أن فى حقيبته راديو ترانزستور صغيرا رفضت إدارة السجن أن تسمح له بأن يصطحبه إلى الزنزانة، ونجحت فى سرقة الراديو وسلمته لصاحبه الذى كان يزودنى بأهم الأخبار فأقوم بنشرها همسا بين بقية الزنازين دون أن أذكر المصدر من باب التأمين.

ما أدهشنى أننى سمعت مسؤولا فى إحدى المنظمات الحقوقية التى تنشط فى مجال الدفاع عن حقوق المسجونين، يطالب بمنع الزيارات عن مساجين «بورتو طرة» إذ الذى أعرفه أن مهمة هذه المنظمات هى الدفاع عن الحقوق القانونية للمسجونين بما يضمن معاملة كل من يدخله معاملة إنسانية حتى لو كانوا فلولاً!

أما المؤكد فهو أن تشتيت سكان «بورتو طرة» من فلول النظام السابق، لن يوقف المؤامرات التى ينسب إليهم القيام بها، والتى أشك فى قدرتهم على التخطيط لها، إذ لو كانوا بهذه القدرة لما انهار النظام الذى كانوا يقودونه فى أقل من ثلاثة أسابيع، كما أن هذا التشتيت لن يحول بينهم وبين مواصلة العمل من أجل كسر الحصار الذى يحيط بهم، وتكرار الاتصال بـ«منى الشاذلى» وغيرها من نجوم الإعلام، فهذا هو الشىء لزوم الشىء.. والاتصال لزوم الحبس.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 5

عدد الردود 0

بواسطة:

nehal

شكرا

عدد الردود 0

بواسطة:

احمد عبد المنعم

انت رائع

عدد الردود 0

بواسطة:

عمرو

ارقى مفكر وكاتب في مصر

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد محمود علوفه

خلى الضمير صاحى

عدد الردود 0

بواسطة:

م عبد المنعم

صلاح بيه

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة