معصوم مرزوق

عقلية «الكومباوند»!!

السبت، 22 ديسمبر 2012 08:25 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان الصديق يتحدث بإعجاب عن إجراءات التأمين المتخذة فى الكومباوند الذى يقطن فيه، فالبوابات عليها حراسات 24 ساعة، فضلاً عن دورية راكبة تمر فى الشوارع الداخلية للكومباوند بشكل مستمر، مع كاميرات مراقبة، ولا يمكن للأطفال الخروج من الكومباوند، كما أنه يوجد نادٍ اجتماعى داخلى يلتقى فيه السكان للشراب والطعام وفى المناسبات، ويتم التخلص من القمامة بشكل منتظم بالاتفاق مع شركة خاصة، قال لى وهو ينفخ سحابة دخان من سيجارة: «كما ترى نحن نعيش فى الجنة».. ولكن هذه الجنة مكلفة.. سعر أصغر فيلا فيها يتجاوز حفنة ملايين من الجنيهات، وإجمالى النفقات الدورية والصيانة تتكلف سنوياً بضع مئات من آلاف الجنيهات، فضلاً عن نفقات المعيشة الفعلية من طعام وملابس ومدارس وكهرباء ومياه، بالإضافة إلى أن هذا الصديق لديه أكثر من مقر صيفى فى منتجعات الشواطئ فى الساحل الشمالى والسخنة والغردقة.. إلخ.

اللهم لا حسد.. بل أجزم أن ذلك الصديق قد صنع ثروته بجهد وعرق السنين، ولم يلوثها بمال حرام، اللهم اضطراره من حين لآخر لتقديم بعض الأموال لتسهيل أموره، وهو ما يطلق عليه فى القانون «رشوة»، وتعارف عليه الناس باسم «تفتيح مخ».. كما أن صديقى يعتبر ذلك بمثابة «صدقة» يساهم بها فى رفع المستوى الاجتماعى لصغار الموظفين وذلك على أى حال ليس موضوع المقال.

هذا «الكومباوند» وأمثاله انتشرت خلال الفترة الأخيرة لتمثل جزراً منعزلة داخل المجتمع المصرى، تضم بين أسوارها قطاعاً كبيراً من نخب المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية، وهى نفس النخب التى يناط بها قيادة المجتمع إلى مستقبل أفضل، أى أنه من المفترض مثلاً أنهم سوف يحملون قضية «العدل الاجتماعى» التى خرج الشعب المصرى يطالب بها، والسؤال هنا كيف يمكن لهم ذلك وهم يعيشون فى «عزلة اجتماعية» عن السواد الأعظم من الشعب المصرى، وخاصة أغلبيته الكادحة؟

تتلخص الإشكالية فى أنه لكى تخرج نخب حقيقية من تلك الأغلبية الكادحة كى تقود نضالها من أجل عيش كريم، فإنه من اللازم أن تتاح لها فرصة تعليم جيد ومجانى، وأن يتمتعوا منذ طفولتهم بصحة جيدة يوفرها لهم نظام غذائى جيد، ورعاية صحية مكفولة من الدولة.. وذلك يبدو صعباً فى ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة، مهما تشدقت القوى السياسية الحاكمة بالانحياز لقضايا الإنسان الفقير، لأنهم ببساطة يعيشون فى قفص الكومباوند، إن لم يكن فعلياً، فإنه يحيط بعقولهم وطموحاتهم.. وقد يقول قائل -بحق- إن أغلب النخب التى تتقافز أمام كاميرات الفضائيات كل ليلة هم فى الأصل أبناء العمال والفلاحين الذين استفادوا بمجانية التعليم والبرامج الإصلاحية التى أتاحتها ثورة يوليو 1952، بل إن الرئيس مرسى نفسه هو ابن أصيل لفلاح استفاد من الإصلاح الزراعى، بينما استفاد الرئيس بالمجانية حتى حصل على درجة الدكتوراة.. فلماذا لم تدافع تلك النخب عن الطبقة الاجتماعية التى نشأوا فيها وذاقوا حرمانها وآلامها وآمالها؟.. الإجابة مرة أخرى تتلخص فى: «عقلية الكومباوند».

عقلية الكومباوند تجعل صاحبها يتجرد من ماضيه، يتعالى على طبقته، يشعر بالعار من أصله، يتحول بالعكس إلى شخصية شديدة القسوة والغلظة مع أبناء طبقته الأصلية، لأنهم يذكرونه بما يتمنى أن ينساه ويمحوه من تاريخه الذاتى، لذلك نسمع عن قصص التعامل الفظ من أبناء الكومباوند تجاه الخادم والسائق والعامل، بل قد نشاهد أحدهم فى برنامج تليفزيونى يحكى ببراءة غاضباً من ثورة يوليو وعبدالناصر الذى صادر الأراضى من الأغنياء كى يعطيها للفقراء، وأمم المصانع كى يأخذها من أصحابها ويوزع أرباحها على العمال.. أنه يدافع بشدة عن طبقته الجديدة التى انتسب إليها، لا يريد أن تمس امتيازاتها ومكاسبها بغض النظر عن مشروعية حصوله على الثروة أو السلطة.

وتبدو «مارى أنطوانيت» أقرب مثال لعقلية الكومباوند، فحين حاصرت جموع الجائعين قصر فرساى، ظنت أنهم قد خرجوا بحثاً عن الخبز، فقالت جملتها المشهورة كما نقل عنها: «إذا لم يجدوا الخبز فلماذا لا يأكلوا جاتوه».. نموذج للانعزال الكامل عن الوسط الاجتماعى المحيط.. انعزال يؤدى فى لحظة غير متوقعة إلى ثورة الجياع.. الثورة التى لن تبقى ولن تذر، حين تجتاح جحافل المعدمين كل معازل الكومباوند، بما يشبه اجتياح الرعاع لقصور النبلاء فى فرنسا أو روسيا القيصرية.. حينها قد يندم أهل الكومباوند حين لن يجدى ندم.

إن قضية العدل الاجتماعى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوظيفة الاجتماعية للمال، وهى تزيد عن مجرد الفروض الدينية مثل الزكاة أو التطوع بالإحسان والصدقات، إنه حق أصيل لكل إنسان يعيش فى إطار جماعة بشرية، وهو الالتزام الأول على أى حكومة لضمان السلام الاجتماعى، وأرى أن ذلك يشمل مظلة وافية من الضمانات التى توفر لكل إنسان حقوقه الأساسية مثل السكن والصحة والتعليم والطعام.

إذا كانت بعض النخب تعانى من عقلية الكومباوند، فإن ما نرجوه أن يتخلص الحكم من هذه العقلية، ولا يكفى استخدام بعض الشعارات البراقة أو البرامج الكرتونية التى لا تساوى ثمن الحبر الذى كتبت به، فلن يتحقق التقدم الذى نصبو إليه إلا إذا شعر كل مواطن مصرى يعيش على هذه الأرض بأنه جزء لا يتجزأ من الجسد الاجتماعى الذى إذا اشتكى منه عضو تداعت له باقى الأعضاء بالسهر والرعاية.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة