سعد هجرس

الثائر الدجال

الأربعاء، 24 أغسطس 2011 04:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سيحتل عام 2011 مكانة استثنائية فى تاريخ العرب، ويكفيه أنه شهد حتى الآن سقوط اثنين من عتاة الاستبداد والطغيان، زين العابدين بن على، وحسنى مبارك، اللذين كان العالم ينظر إليهما باعتبارهما من «الثوابت» التى لا تنطبق عليها قوانين الحركة والتغير... ومع ذلك فإنهما سقطا سقوطًا مريعًا.

وهذا هو ثالثهما، العقيد الليبى معمر القذافى، يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يهذى بكلماته العجيبة عن «الجرذان» وغيرها من الكائنات الخرافية التى يعتقد الديكتاتور الليبى أنها هى المسؤولة عن محنته، لأنه - باختصار - لا يريد أن يواجه الحقيقة البسيطة، وهى أن «الشعب» هو الذى سئم منه، ومن حماقاته، ومن سياساته العبثية، وقرر التخلص من حكمه الذى لا مثيل له فى مشارق الأرض ومغاربها.

وإذا كان الشعار الذى ألهم الشعب التونسى والشعب المصرى فى ثورتيهما هو «الشعب يريد إسقاط النظام»، فإن الليبيين تندروا على أولئك الذى حكموهم طيلة 42 عامًا بـ «نظام» فاشستى من نوع فريد برفعهم شعار «الشعب يريد إقامة النظام»، فى إشارة ذكية إلى أن حكم القذافى لا تنطبق عليه مواصفات أى نظام سياسى متعارف عليه، وبالتالى فإن المطلوب هو إقامة نظام ديمقراطى يعيد الاعتبار إلى دولة الحق والقانون.. اللذين أصبحا عملة ممنوعة من التداول فى بلاد غنية بمواردها وشعبها، لكنها منكوبة بحاكمها المصاب بجنوب العظمة، لدرجة وصفه لنفسه بأنه «ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب».

ولم يكتفِ القذافى بانتحال صفة «العميد الملك»، بل إنه استمرأ انتحال صفة «الثائر».. و«قائد الثورة».

وهو بالفعل ثائر.. لكنه «ثائر دجال»، استخدم شعارات الثورة والثورية - زورًا وبهتانًا - كسحابة دخان للتغطية على نظامه الاستبدادى الفاشستى وجرائمه التى غطت الأراضى الليبية الشاسعة من مشارقها إلى مغاربها، وتجاوزتها إلى إرهاب عابر للحدود والبحار والمحيطات.
واستخدم شعارات الثورة والثورية لمحاولة خداع الشعب الليبى وصرف أنظاره عن التبديد السفيه لثروات البلاد، إما فى مشروعات كوميدية، أو فى تمويل حركات وشخصيات مغامرة، هنا وهناك، وفى بلاد تركب الأفيال، أو فى شراء وتكديس ترسانة رهيبة من الأسلحة التى تكلفت مليارات الدولارات.. ولم تنفعه فى حروبه الخارجية، أو حتى الداخلية، حيث سقطت طرابلس بسهولة مذهلة، أو فى تهريب مليارات الدولارات إلى حسابات خاصة باسمه وأسماء أبنائه فى بنوك العواصم الغربية التى ادعى أنه يقود الثورة ضدها.

والرقم الذى أعلنه المسؤولون الأمريكيون لحجم الأموال المنهوبة والموجودة فى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها هو 30 مليار دولار، بينما تشير التقارير إلى أن الثروات التى نهبها موزعة على ثلاثين دولة فى أربع قارات.

وهذا يعنى باختصار أن «الثائر» المدعى.. ليس سوى لص كبير، سواء هو أو ابنه سيف الإسلام، «جمال مبارك ليبيا»، أو الوريث الذى كان يعده والده لخلافته وكأن البلاد أصبحت عزبة خاصة لسيادته.

ولا شك أن اختفاء العقيد الليبى معمر القذافى، الذى أساء إلى فكرة الثورة وفكرة العروبة، لن يفسح الطريق أمام تغيير إيجابى فى ليبيا فقط، وإنما فى المنطقة بأسرها.

وأذكر بهذا الصدد حديثًا مع كاتبنا الكبير جدّا الأستاذ أحمد بهاء الدين رحمه الله، تطرق فيه إلى شخصية القذافى - عندما كان الكثيرون مخدوعين فى ثوريته الزائفة وقوميته العربية الكاذبة وناصريته الخادعة - قائلاً إن هذا الثورى الدجال تم «صنعه» للقيام بوظيفة محددة هى جعل ليبيا «الدولة العازل»، المنوط بها عزل مصر عن المغرب العربى.

وقتها بدت نظرية الأستاذ أحمد بهاء الدين غريبة وصعبة التصديق، لكن الأيام أثبتت أن استمرار وجود «الثائر الدجال» لأكثر من أربعين عامًا لم يكن عبثًا، ولم يكن ضد مشيئة القوى الكبرى صاحبة الأمر والنهى والمتحكمة فى حركة الكرة الأرضية.

ولعل الدبلوماسية المصرية تفيق من سباتها الطويل، وتعيد ترتيب الأوراق وفقًا للمستجدات الدراماتيكية والتى شاءت أن تهب رياح الثورة على هذا الحزام الاستراتيجى الذى يضم مصر وتونس وليبيا.

فهذه كتلة استراتيجية يمكن إذا ما تم التعامل مع مستجداتها بذكاء أن تصبح كنزًا سياسيّا واقتصاديّا بكل معانى الكلمة.

الأمر يحتاج فقط إلى جسارة ومبادرة وتفكير إبداعى خارج الصندوق.. وهذه هى الفائدة الرئيسية لسقوط طابور الطغاة.. وليس آخرهم، الثائر الدجال معمر القذافى.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة