معصوم مرزوق

قلم أسود.. ليس سوداويا

السبت، 23 أبريل 2011 04:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا بأس من أن تحمل بعض الأقلام مدادا يقطر نقدا وسخرية مريرة أو غير مريرة، فذلك صحى أحيانا، بل وأحيانا كثيرة، ولا غضاضة فى أن يمعن المرء فى تأمل النصف الفارغ من الكأس، خاصة إذا كان يأمل فى مزيد من الامتلاء..
ولكن البأس كل البأس، والغضاضة كل الغضاضة أن ينسكب المداد الأسود على كل الصفحات البيضاء، فلا يعكس سوى الكآبة واليأس، ولا يقدم للقارئ سوى جرعة من السم والمرارة التى هو بالفعل متشبع بها، ليس ظمآنا للمزيد منها..
النقد مطلوب وبشدة، ولكنه لا يعنى فقط مجرد استعراض للعاهات، وتحويل المقال إلى مستودع للعجز والآهات والندم، وإنما يعنى التناول الموضوعى للمسألة التى يتعرض لها من كل جوانبها، ولا شك أن لكل سحابة سوداء خيطاً فضياً لامعا،ً كما أن لكل زنزانة باباً للخروج، ووظيفة القلم تستدعى الاجتهاد فى البحث عن هذا الباب، وليس مجرد وصف معاناة السجين وأبعاد الزنزانة.
بعض أهل السياسة يزعمون أنهم (جاءوا إلى الدنيا كى يعترضوا أو يرفضوا) وهذه حكمة الله فى خلقه، تماما كما هى حكمته فى خلق البعض الآخر الذين (جاءوا إلى الدنيا ليوافقوا) ولكن من المؤكد أن صنفا ثالثا بينهما (جاء إلى الدنيا ليكون أكثر تعقلا وموضوعية )، حيث إن طرفى السياسة الأولين تعتريهما شبهة النفاق والذاتية، فالاعتراض أو الرفض المطلق متعة الكسول المتراخى، والموافقة المطلقة هى نعمة الجهل التى يرفل فيها أصحابها.
لذلك كان على القلم أن يتوازن، ولا نقول يتجرد لأن التجرد شئ لايمكن أن يتحلى به إنسان، فالمتجرد ليس إنسانا مثلنا من دم ولحم وخبرات متنوعة، بينما المتوازن هو إنسان لا يخفى شخصيته وآراءه، فهو مهما اشتط يبحث عن حجج عقلانية، ولديه دائما مساحة للشك تعذبه وتقصقص أجنحة الطيران إلى المطلق، لذلك نقرأ ونعجب بما يكتبه، حتى مع اختلافنا معه، لأنه بشرى، مثلنا لا يدعى تبوء مقاعد الأنبياء.
السخرية تقدم أحيانا قالبا ضروريا لعرض موضوع مؤلم، تماما مثلما تضيف شركات الدواء بعض العناصر لتحلية دواء مرير، فالسخرية- فى هذا الإطار- ليست مطلوبة لذاتها، وإنما كأقراص مساعدة على الهضم، أو كمخدر موضوعى على الجرح كى يسهل تنظيفه ورتقه، ونحن نفعل ذلك فى حياتنا اليومية دون تعمد وبالسليقة، فحين يسخر إنسان من الدنيا ومهازلها وهو يقدم واجب العزاء لإنسان آخر، وحين يتذكر آخر حماته وهو يشاهد امرأة عجوزاً ضربتها سيارة مسرعة، وحين تتم المقارنة ما بين تصريحات سياسى قبل انتخابه، وتصرفاته بعد انتخابه، كل ذلك وغيره كثير، يؤكد ضرورة السخرية للإنسان كى يتمكن من مواصلة العيش بأكبر قدر من السلام مع نفسه، فهى عامل التوازن فى أحيان كثيرة، إلا أن الكثير منها يحول الإنسان وحياته إلى نكتة سخيفة.
وقد قيل- بحق- إنه (بدلا من أن نلعن الظلام، فلنضىء شمعة )، إلا أن البعض قد يقول- وبحق أيضا- إنه فى بعض الحالات قد لا يجد المرء شمعة يضيئها، وهنا أبادر بالقول بأن تلك الشمعة يفترض وجودها فى عمق كل إنسان، لو فتش عنها لوجدها، فهى ليست عنصرا خارجيا عنه، بل هى فيه وفى إرادته، ويستطيع أن يطارد بها الظلام وأن يضىء بها الدنيا، والمشكلة فى أولئك السوداويين أنهم يهيمون بالعذاب ويرتحلون فى الألم، لذلك يجدون لذتهم فى وصف الظلام والتغزل فيه (حتى إذا كان غزلا غير عفيف)، فالعالم كله متواطئ والمسئولون غير أكفاء، والأسعار سعار، والدنيا خريف، والطعام ملوث، الخ!..
باختصار.. لا يرى هؤلاء حياتهم إلا من خرم الأوزون. وهذا النمط يعيش فى حالة رعب مزمنة، ولا يستريح إلا إذا نقل رعبه إلى الآخرين، يقسم لك أن هذا يوم لم تطلع له شمس بينما قرص الشمس فوق رأسه تماما، لو فكر لحظة أن يرفع عينيه لغشيته بضوئها القوى.. إنه يحترف تشويه كل شئ حتى نفسه، وهو فى الغالب أول ضحايا مرضه، ويزعم للآخرين أن لديه شجاعة الرفض والنقد، والمصيبة أنه أحيانا يجد من يصدقه.
وعلى العكس نجد النموذج المسترخى، السعيد دائما، الذى لا يرى إلا من نظارة السلطة أيا كانت هذه السلطة بداية من زوجته وانتهاء بالقطب الدولى شىء تمام التمام، وأحلى إجاباته عن أى مشكلة أنه (ليس هناك مشكلة)، ويزعم للآخرين أن لديه نبل الموافقة وفضيلة الطاعة التى تفضل العلم والأدب معا، فالإنسان فى نظره- مسير لا يملك خيارا، وعناده ليس إلا كفرا يورث كفرا، ولن يغير أحد ما كتب عليه، فكله مكتوب على الجبين ولازم تشوفه العين، هو إنسان مسل ظريف ويبدو غير ضار، ولكنه أيضا غير نافع، بل وأجازف بالقول إنه أكثر النماذج ضررا وضرارا.
وأشد ما أخشاه هو أن تنتقل العدوى إلى الشباب- مستودع آمالنا فى المستقبل - فلا يرى بعضهم الحياة إلا من تلك النظارة السوداء، ويتحول إلى كاره لمجتمعه ولنفسه، يستسلم لهذا الإحساس اللذيذ بأن كل ما حوله طين وقطران وهو وحده المتفرد بامتلاك الحقيقة، فإن فشل فى دراسته فالسبب هو تقصير المعلم أو قصور المنهج أو عدم جدوى العلم ذاته، معزياً نفسه بأن النصب والاحتيال أسهل كثيرا من فناء العمر فى التعلم والدراسة، وبأنه ضحية لمجتمع بلا قلب، و.. و.. الخ.
أقول لهؤلاء الشباب لا تقرأوا عبثنا الذى نسميه أحيانا أدبا وأحيانا أخرى سياسة، تبا لأغانى العجز، لديكم ما لم يعد هؤلاء يملكونه، فالعمر الذى أمامكم صار خلفهم، وخصوبة عقولكم سوف تصل إلى مالا تدركه عقولهم التى تفككت صواميلها، وسواعدكم العفية سوف تزيل الجبال التى تعترض الطريق، لذلك أرجو أن تزيحوا كل تلك الغمامات السوداء عن عيونكم، فالحياة أجمل مما صورناه لكم، وأكثر رحابة من صدورنا التى ضاقت بسعال الشيخوخة، وعقولنا التى تآكلت بفعل الزمن، نعم، أمامكم تحديات صعبة، واختبارات أصعب، ولكن ما أروع هذه التحديات التى تكسب العمر خبرة ومعانى، والاختبارات التى نتعلم من أخطائنا فيها أضعاف ما نتعلمه من صوابنا، أن المستحيل- صدقونى- لا يوجد إلا فى عقولنا، فلا تدعوا مدادنا الأسود يمتزج بدمائكم الشابة الطازجة، وتذكروا أن شبابا مثلكم شيدوا الأهرامات بسواعدهم، وغيرهم قهروا المستحيل وعبروا قناة السويس فى ملحمة تعجز الأقلام عن رواياتها، وأنتم بدوركم تستطيعون أن تجتازوا بوطننا الغالى كل المصاعب والمحن، مهما كانت المعاناة والإحباطات.
أما أولئك الذين يقرأون للصنف الموافق دائما وأبدا، أقول لهم إن السلبية ليست قناعة، وأن التواكل ليس توكلا، وأن التسلق والتملق مهانة لا ترضاها النفوس الكريمة، مهما كانت المكانة التى يتبوأها المنافق، فما فائدة أن تربح العالم وتخسر نفسك؟، وليس لأحد أن يحسد وصوليا على ما حققه، فهو باع نفسه بأرخص الأثمان، ويستحق الشفقة والرثاء، فربما تمكن المنافق الوصولى من أن يصل إلى كل ما تشتهيه الأنفس، لكن ما هو معنى حياته ؟ لقد عاش فى الحضيض بلا مبدأ أو قيمة أو أخلاق، يكفيه ذلك عارا وانحدارا.
لا تقرأوا لهم فهم ديدان يقتاتون من دماء المجتمع، ويلوثون بأقلامهم ينبوعنا الصافى، ولا تأخذوا بنصائحهم التى تحضكم على الخنوع والمداهنة، تمردوا على ذلك الواقع السيئ واصنعوا واقعا جديدا، لأن أولئك المترهلين لم يحققوا شيئا مهما كانت مكانتهم وحظوتهم. إن التحدى الماثل أمامكم أيها الشباب، أهم وأجدى من شقة قد لا تجدونها اليوم، أو حبيبة قد يصعب الزواج منها، أو وظيفة تبدو كالسراب، أو مركز ومال، فكل ذلك هين وممكن، التحدى الماثل أمامكم هو أن تعيدوا صياغة الواقع من أجل حياة أفضل فى المستقبل، وذلك لن يتأتى إلا بالتماس العلم أينما كان، وبذل الجهد المخلص بلا كلل أو ملل، والتحلى بالجدية والشجاعة، فليكن رأيك الحر سيفك ودرعك، مهما أثخنت جراحا وهزائم، فالشباب معارك متتالية فيها هزائم وانتصارات، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
* عضو اتحاد الكتاب المصرى.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة