معصوم مرزوق

سلام الردع النووى

الجمعة، 18 مارس 2011 08:20 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هذه ليست أول مرة أكتب فيها عن هذا الموضوع، أذكر على سبيل المثال مقالى بعنوان: "القنبلة النووية المصرية"، الذى كتبته فى بداية التسعينات، وحتى لا أكرر نفسى أكتفى هنا بالإشارة فقط إلى أننى برهنت فى هذا المقال على أن إسرائيل لن تتخلى طواعية عن قدراتها النووية، وطالما استمرت منفردة بذلك فى منطقة الشرق الأوسط فإنه من المستحيل أن يتحقق السلام العادل والشامل، وذلك بسبب هذا الخلل الرهيب فى موازين القوى وخاصة فى ميزان الرعب النووى، وللخروج من هذا المأزق فهناك طريقان: إما أن ترغم إسرائيل على التخلى عن ترسانتها النووية وهذا يبدو مستحيلا، وإما أن تتوافر القدرة النووية لدى دولة أخرى فى الشرق الأوسط حتى يتحقق التوازن المطلوب الذى بدونه لا يمكن أن يتحقق السلام الحقيقى وهذا ممكن.

هذه الخلاصة البسيطة ليست إعتسافاً فكرياً أو تهوراً سياسياً، وإنما هى استنتاج لدراسات متعمقة – لا مجال لتفصيلها هنا – للتاريخ الإنسانى وخاصة فى محنة الحرب والسلام، يمكن تلخيصها فى أن الحرب كانت فى الأغلب الأعم نتاج خلل فى توازن القوى، بينما كان السلام فى الأغلب الأعم أيضاً هو نتاج توازن القوى.

روشتة كيسنجر:

كان هنرى كيسنجر فى أحد كتبه (هل تحتاج أمريكا سياسة خارجية؟)، قد تعرض لهذا الموضوع فى معرض حديثه عن التسليح النووى فى الهند وباكستان، فقد قال إن أمريكا لديها كل الحق فى محاولة تحقيق منع الانتشار النووى، إلا أن رئيسى وزراء كل من الهند وباكستان لديهما أيضاً كل الحق فى تحقيق أهدافهما من التسليح النووى، ومن ناحية أخرى قال هنرى كيسنجر أن الأمم لديها على الأقل ثلاثة دوافع لبناء برامجهم النووية وهى:

1- الرغبة فى أن يكونوا قوة عالمية على أساس أن الأمة التى لا تستطيع الدفاع عن نفسها ضد إحتمالات مختلفة من الخطر لا يمكن أن تكون قوة عالمية، هذه الأمة سوف تمتلك الأسلحة النووية وستسعى للحصول على مقدرة توصيلها إلى الخصم المحتمل .. وقد وضع كيسنجر الهند فى هذه الطائفة.
2- طائفة أخرى تشعر بتهديد من جيرانها الذين لديهم عدد أكبر من السكان وموارد أكبر، وبامتلاك السلاح النووى يمكنها أن تحقق الردع وعلى وجه الخصوص إذا كان لدى الجار القوى أسلحة نووية، وضرب مثالاً لهذه الطائفة بكل من إسرائيل والباكستان.

3- الطائفة الثالثة والأخيرة فى تقسيم كيسنجر هى طائفة الأمم التى تصمم على هز توازن القوى فى مناطقهم، وترى فى الأسلحة النووية وسيلة لإرغام جيرانهم ومنع أى تدخل خارجى، وضرب أمثلة بكل من العراق وكوريا الشمالية.

والواقع أنه إذا كان كيسنجر قد وضع إسرائيل فى الطائفة الثانية، فإن شروط هذه الطائفة تنطبق أيضاً على الدول العربية فى الشرق الأوسط حيال إسرائيل، ولكى أزيد الأمر إيضاحاً فإننى أجد العناصر الأساسية التى وردت فى كتاب كيسنجر المذكور تتفق تماماً مع الأسباب التى استندت إليها فى بداية التسعينات كى أستخلص أهمية اقتناء إحدى الدول العربية للقنبلة النووية كسبيل وحيد لتحقيق السلام الدائم والعادل والشامل، وهذا الوضع قد يحقق ما هو أكثر من مجرد الردع، وما يتجاوز سلام المنطقة إلى سلام العالم حين ترغم إسرائيل على التفاوض للتنازل المتبادل عن اقتناء الأسلحة النووية، وهكذا فإن حركة واحدة قد تبدو سلبية (اقتناء دولة عربية لسلاح نووى)، سوف تؤدى إلى حركتين إيجابيتين هما سلام إقليمى وسلام عالمى.

دفاع عن الوجود:

من المؤكد أن هذا الطرح – فى ظل ما يدور فى المنطقة الآن على الأقل – يبدو طرحاً غير عملى، بل مغامرة غير مأمونة العواقب، إلا أنه – مع ذلك – يبدو الطرح العملى الوحيد لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط، ورغم التناقض الظاهر فيما سبق، فلا شك فى أن مجرد الطرح قد يؤثر على مجريات التيارات التى تعصف بالمنطقة ويوجهها التوجيه الصحيح، فعلى سبيل المثال – وبالإشارة مرة أخرى إلى كتاب كيسنجر – فأن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أن أهم أهدافها الإستراتيجية الآن هى محاربة الإرهاب والحيلولة دون إنتشار الأسلحة النووية، ومن المؤكد أنها تدرك الآن – بعد تجربة الهند وباكستان وكذلك كوريا الشمالية – تدرك أنه من الصعب التوصل إلى الحد من أسلحة الدمار الشامل خاصة مع التقدم التكنولوجى والسهولة التى تنتقل بها تلك التكنولوجيا، بل ولعلها تعلم الآن أن مسألة إقتناء سلاح نووى أصبحت تتوقف على ثلاثة عوامل رئيسية، أولها: وجود تهديد لا يمكن مواجهته بأسلحة أخرى، وثانيها: توافر الإرادة السياسية، وثالثها: الاستعداد لتحمل الثمن السياسى والاقتصادى، ودون الدخول فى تفاصيل هذه العوامل، فإنه قد يكون من الأنسب للولايات المتحدة الأمريكية أن تضغط وبشكل فعال على إسرائيل كى تتخلص من أسلحتها النووية، وتنضم إلى معاهدة حظر انتشار تلك الأسلحة وتخضع منشآتها النووية للتفتيش، وذلك فى إطار صفقة كاملة متكاملة للأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط.

وهكذا قد يقود الطرح الجاد إلى تحقيق حلم "منطقة شرق أوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل"، أو إلى تحقيق السلام من خلال التوصل إلى صيغة "توازن الردع"، ولا أظن أن أى كوابح سياسية أو قانونية أو أخلاقية يجب أن تحول دون ذلك، لأنه لا يوجد ما هو أكثر قيمة سياسياً أو قانونياً أو أخلاقياً من واجب الأمم لإتخاذ كل الوسائل اللازمة للدفاع عن النفس، بل هى وبكل وضوح دفاع عن الوجود ذاته.

تفادى الحرب القادمة:

ولعل ما يؤكد جوهر هذا الطرح هو ما يشاهده العالم كله من عربدة إسرائيلية تجاوزت حد الجنون وتهدد المنطقة كلها بإنفجار متعدد المستويات (محلياً وإقليمياً ودولياً)، أن إسرائيل تؤسس حقها فى هذه العربدة غير المسبوقة بما تملكه من تفوق فى الأسلحة التقليدية، إلا أن ذلك يعود إيضاً – بلا أى شك – فى امتلاكها لسلاح الرعب النووى الذى يجعل التصدى لعربدتها تجربة مستحيلة حتى ولو كانت من الجانب النفسى، وذلك بالمناسبة هو ما تؤكده تصريحات المسئولين الإسرائيليين حالياً، فلم يسبق لتلك التصريحات أن اتسمت بهذا القدر من الصلف وغرور القوة، فإسرائيل الآن تهدد بضرب المنشآت النووية فى إيران، وتتحدث عن قدرتها فى قصف المنشآت النووية الباكستانية، ويتحدث رئيس وزرائها أمام الرئيس الأمريكى مؤكداً عدم احتياج إسرائيل لمن يدافع عنها، وذلك كله يختلف عن الصورة التى روجت لها إسرائيل منذ نشأتها، حيث كانت تلك الصورة ترسم دولة ضعيفة مكسورة الجناح يحيط بها وحوش عربية تتأهب لالتهامها.

وفى الواقع لن يكسب العرب سباق التسلح بشكله التقليدى، خاصة مع انتهاء الحرب الباردة، وعجز العرب عن إيجاد مصادر للتسليح تتكافأ مع ما تحصل عليه إسرائيل من ترسانة السلاح الأمريكية، بل إن أغلب الدول العربية تحصل على حاجتها من التسليح من الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الإستراتيجى لإسرائيل، وذلك يعنى بداهة أن العرب لن يتاح لهم أبداً تحقيق السبق أو حتى التعادل فى المقدرة التسليحية التقليدية مع إسرائيل، وهذه حقيقة أخرى تؤكد على أهمية سلاح الردع النووى العربى، بل إنه يصبح بالنسبة للعرب أهم كثيراً من وجوده فى إسرائيل، لأن الأخيرة – حتى بافتراض تخلصها من أسلحتها النووية – فهى بحكم علاقتها الإستراتيجية مع أمريكا تتمتع بحماية مظلتها النووية الهائلة.

وفى النهاية، وحتى لا يساء فهم هذا المقال، فنحن لسنا دعاة حرب أو سباق تسلح، نحن أشد الناس إنتقاداً لأسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها، وأكثرهم إلحاحاً على تخليص البشرية من هذا الخطر المخيف، نحن نؤمن بالسلام الحقيقى، ذلك السلام الذى لا يمكن أن يتحقق – للأسف – فى هذا العالم إلا مستنداً على توازن حقيقى للقوى، وذلك ليس اختراعا من عندياتنا أو انفعالات طارئة، وإنما حقيقة من حقائق السياسة، ويكفى القول أننا لا نطرح شيئاً يختلف عما توصل إليه كبير دهاقنة السياسة هنرى كيسنجر.. فهل نرفض نصيحة ذلك الرجل الداهية، ونفقد فرصة حقيقية للسلام؟.. سلام الردع النووى.

إن القادة والجنرالات قد يعرفون جيداً تجارب الحروب الماضية ويتعلمون منها الكثير، إلا أنه من المشكوك فيه أنهم قد يعرفون تجارب الحروب القادمة لأنها ستكون تجربة بدماء وحياة الأمم، وربما أهم جهد لهم هو أن يعرفوا كيف يتفادون الحرب القادمة؟.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة