صلاح عيسى

حبْسة ظلومة!

الأربعاء، 09 نوفمبر 2011 05:29 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أتذكر آخر مرة شعرت فيها بالفرح الخالص وأنا أستقبل أيام الأعياد، والغالب أن ذلك قد حدث حين غادرت طفولتى واستقبلت صباى، ولأكتشف أن العيد بالنسبة للصغار فرحة بلا حدود، ولكنه بالنسبة للكبار هدنة مؤقتة من الهموم، واستراحة قصيرة من المشاغل والمشاكل.
وكان جدى لأبى هو أكثر أفراد أسرتنا اهتماما بالعيد، فإذا كان منتصف رمضان، أو الأسبوع الأخير من ذى القعدة، عاد من البندر وهو يحمل لفائف من الورق، يعطى كلا منا نحن أحفاده واحدة، ومعها قبلة، فنتخاطفها فرحين، ونجرى إلى الخياط الوحيد فى قريتنا فيدون اسم كل منا ومقاساته على حواف قطعة القماش، ونظل نتابعه إلى ما بعد صلاة عشاء ليلة العيد، إلى أن يتسلم كل واحد فرحته، وينام وهو يحلم بالصباح الذى يختر فيه بين أصحابه، وهو يرتدى جلبابا جديدا ويضع على رأسه طاقية من القماش نفسه.
فى الصباح المبكر من يوم العيد نجلس نحن الأطفال فى المضيفة، ننتظر عودة الآباء والأعمام والأخوال من صلاة العيد، فإذا وصل أولهم أحطنا به، وقبَّل كل منا يده فيخرج من جيبه رزمة صغيرة من أوراق النقد فئة الخمسة القروش، ليعطى كلا منا واحدة، نتأمل نقوشها فى إعجاب ونشم رائحة حبر الطباعة التى لم تغادرها، ونضعها بحرص فى جيوبنا حتى لا تنثنى حوافها.
ولأننى لم أكن أعرف فى البداية فيما أنفق هذه النقود، أجرى إلى أمى لأعطيها الورقة فئة القروش الخمسة، فتعطينى قطعة ملبن أو ملبسة، وتؤكد لى أنها سوف تضيف إليها ما يكمل ثمن شراء عجلة أو معزة باسمى ثم تدفع بها إلى أحد الفلاحين ليربيها لأصبح بعد عدة أعياد صاحب قطيع من الماعز أو الجاموس يدر على أضعاف ما دفعته فيه من عيدية!!
وفيما بعد عرفت أن هناك مصارف أخرى للنقود، غير شراء المعزة أو عجل الجاموس، حين ركبت فى أحد الأعياد القطار مع أخى وأولاد خالى إلى البندر، وطفنا بأسواقه وأكلنا سندوتشات فول وطعمية، ودخلنا السينما، وشاهدنا «بدار لاما» فى فيلم «الهبوب ملك الصحراء»، ومنذ ذلك الحين توقفت عن إعطاء عديتى لأمى على الرغم من أن المعزة كانت قد أنجبت عدة بطون، وأن العجل كان قد أصبح جاموسة تحمل فى بطنها عجلا، ومنذ أن اكتشفت أن الكتب القديمة تباع على سور الأزبكية بما لا يزيد على قرش أو قرشين، أصبحت أزوره بعد كل عيد لأشترى بعيديتى كلها كتبا لطه حسين والمنفلوطى وجورجى زيدان والمازنى وأحمد حسن الزيات وأجاثا كريستى وإسكندر ديماس الأب والابن.
ومع الزمن ورحيل جدى وتشتت الأسرة بين القاهرة والمدن الأخرى بحثا عن الرزق، بدأ عدد الذين يحرصون على قضاء العيد فى القرية من أفرادها يتقلصون، حتى لم نعد نلتقى إلا فى الجنازات والمآتم، ولم يعد أحد يعطينى عيدية، وأصبح يوم العيد يمر كأى يوم من أيام الإجازات.
وذات شتاء من عام 1966، استمعت إلى تكبيرات العيد تقتحم الزنزانة التى كنت أقيم بها فى معتقل طرة السياسـى، فهجمت على ذكريات العيد ووجه جدى وهو يوزع الفطرة، والنشوة التى شملتنى وأنا أشاهد فيلم «الهبوب ملك الصحراء»، وكتب سور الأزبكية التى قادتنى إلى الزنزانة، وكان الجميع حولى يغطون وجوههم بالبطانيات ويتظاهرون بالنوم، ولكنى كنت واثقا أن حزنا كالذى أشعر به يعتصر قلوبهم.
ولابد أن محاولة التخلص من هذا الحزن، هى التى قادتنا إلى أن نطوف بأرجاء المعتقل ونحن نغنى أغانى من نوع «طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة» و«الحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية» وغيرهما من ألحان «سيد درويش» إلى أن وصلنا إلى لحنه الشهير «التحفجية» الذى يقول فى مطلعه « يا مشاء الله على التحفجية أهل اللطافة والمفهومية»، فوقفنا أمام المقطع الذى يقول «بس الأكادة الحبسة ظلومة.. يكفينا شَرك يا دى الحكومة»، فأخذنا نكرره بحماس وسخرية، وقد أحاط بنا بقية المعتقلين إلى أن تصاعد الحماس لدى أحدنا، فغيره إلى «بس الأكادة حبسة ظلومة.. يلعن أبوكى يا دى الحكومة»، فعلت أصواتنا ونحن نردده خلفه لتتحول الأغنية إلى نشيد ثم إلى هتاف مدوٍ.. لحظتها فقط تنبه ضباط المعتقل إلى خطورة ما نقول وما يسمعون.. فصدرت الأوامر بإعادة كل المعتقلين إلى زنازينهم ليمضوا بها بقية أيام العيد!!








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

ماريا

مقال رائع

مقال حلو فعلا

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة