صلاح عيسى

مليونية الشيخ «عثمان سليط»

الأربعاء، 23 نوفمبر 2011 03:51 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تشاع عبارة «إخْصْ عليك» فى العامية المصرية، بمعنى «عار عليك»، وعادة ما ينطقها الذى يقولها بحروف خشنة وعلى وجهه علامات اشمئزاز، ويعقبها عادة بصقة على الأرض، أو على وجه الأبعد الذى يخاطبه على سبيل الاحتقار، اللهم إلا إذا كان يقولها على سبيل العتاب، كأن تقول فتاة لخطيبها مثلا:

«إخص عليك.. كده تتأخر وتسيبنى ملطوعة على محطة الأتوبيس ساعتين..» فتنطق بحروف مخففة وبلهجة رقيقة ناعمة تقلب الخاء حاء وتعيد الصاد سينًا، تعقبها ضغطة على اليد.. أو قبلة على الوجنتين!.

و«إخص» بكسر الألف وسكون الخاء والصاد كلمة فصيحة، أصلها «اخسأ» جرى تحريفها على ألسنة العوام بإبدال السين صادًا، وحذف الألف الثانية، وفى القاموس «خسأ الكلب» أى «بَعُد وذلّ» و«خسأ البصر» أى «أعيا وكلّ».

وكان أستاذ الأجيال «أحمد لطفى السيد» «1872 - 1963» هو أول مفكر سياسى مصرى، يأخذ هذا «الإخص» المصحوب ببصقة على الأرض، فى تاريخ الفكر العربى الحديث.. وهو محام وكاتب وصحفى ومدير لدار الكتب ومدير لجامعة القاهرة، ووزير للمعارف ورئيس لمجمع اللغة العربية، ووزير للخارجية، وأول من ترجم مؤلفات الفيلسوف اليونانى «أرسطو» إلى العربية.. وتعرفه دوائر المعارف بأنه «رائد الفكر الليبرالى العربى».

أما أيامها فكان «أحمد لطفى السيد» رئيسا لتحرير صحيفة يومية تحمل اسم «الجريدة» صدرت عام 1906 لتكون لسان حال «حزب الأمة» وعلى صفحاتها عرف المصريون لأول مرة معانى كلمات مثل «الليبرالية» - وكانت تترجم آنذاك إلى «التحررية» والديمقراطية وتحرير المرأة وتعرفوا إلى شخصيات مثل «جان جاك روسو» و«مونيسكيو» وغيرها من مصطلحات وأعلام الفكر الليبرالى، وسرعان ما احتشد حوله فريق من الشبان الذين تأثروا بالفكر الأوروبى، أو تلقوا دروسهم فى أوروبا، من بينهم «طه حسين» و«محمد حسنين هيكل» و«أحمد فتحى زغلول» و«طلعت حرب» و«قاسم أمين» وآخرون، خاضوا سلسلة من المعارك الفكرية، دفاعا عن الحريات الليبرالية، من حرية الرأى إلى حرية العقيدة، ومن حرية الصحافة إلى حرية تشكيل الأحزاب، ومن حرية البحث العلمى، إلى حرية المرأة، ومن تحرير الوطن إلى تمصير الاقتصاد بإنشاء بنك مصرى ينقذ ثروة البلاد من سيطرة البنوك الأجنبية.. وعندما أصدر «قاسم أمين» كتابه الثانى «تحرير المرأة» خاضت «الجريدة» معركة الدفاع عنه، فى مواجهة الذين نددوا بالكتاب وشَّهروا بمؤلفه.. وطعنوا فى إيمانه.

وبعد ست سنوات من صدورها، رشح «لطفى السيد» نفسه لعضوية «الجمعية التشريعية - برلمان ذلك العصر - عن دائرة «قلين» بمديرية الدقهلية، ولأنه كان شخصية عامة معروفة على نطاق القطر، فضلا عن أنه كان ينتمى لأسرة من أعيان الناحية، فقد أيقن منافسه الشيخ «عثمان سليط» أن الدائرة سوف تطير منه، حتى كاد يتنازل عن الترشيح يأسا من الفوز، لولا أن صديقا له أقنعه بأن لديه وسيلة تقضى على منافسه «لطفى بك» بالضربة القاضية وعلى الفور اختارا مجموعة من أعداد «الجريدة» التى تحمل مقالات «لطفى السيد» عن الديمقراطية ومساواة المرأة بالرجل، وبدأ الاثنان يطوفان بالدائرة، فإذا ضمهما مجلس قال الصديق:

بصراحة.. «لطفى بك» كفء ونزيه.. بس يا خسارة.
فإذا سأله الحاضرون:
على إيه يا سيدنا البيه؟
قال: لو ماكنشى ديمقراطى.
وينشط أحد أنصار «لطفى السيد» إلى دفع الاعتراض، متسائلا عن عيب «الديمقراطية» عندئذ يقول الصديق:

ألا تدرى ما هى الديمقراطية؟ إنها مصيبة على الدين وعلى العادات! ألا يطالب «لطفى بك» بمساواة المرأة بالرجل؟ طيب أليس من حق الرجل أن يتزوج بأربع نساء؟ فإذا تساوت المرأة والرجل فى الحقوق ألا يكون معنى ذلك أن تصبح للمرأة حقوق الرجل نفسه، فتتزوج هى الأخرى بأربعة رجال؟ إذا كان هذا يرضيكم يا حضرات الناخبين فانتخبوا صاحب هذا الرأى المخالف لدين الله وأحكام الشرع وعادات المسلمين.

وبعد هذا يناول الصديق المستمعين أعداد «الجريدة» ليقرأوا ويتأكدوا بأنفسهم من صدق الكلام.. فيقرأ من كان منهم يعرف القراءة سطرا ثم سطرين فلا يفهم منهما شيئا.. فيلقيها، وهو ما كان ينتهى عادة على الأرض، مصحوبة ببصقة وبعبارة «إخص دا «لطفى بك» طلع ديمقراطى»!

وهكذا طارت الدائرة، ولم يفز لطفى بك بلقب النائب «المحترم» بل حصل على لقب «إخص دا ديمقراطى».. ومع أنه كان أول من حصل بعد ذلك على جائزة الدولة التقديرية عام 1958، إلا أننى فوجئت يوم الجمعة الماضية الذى انعقدت فيه - بدعوة من التيارات الدينية الإسلامية فى مصر مليونية تهتف «لا مدنية ولا ليبرالية» فتذكرت أول «إخص» فى تاريخ الفكر العربى الحديث، وحين دققت النظر فى وجوه الذين يهتفون اكتشفت أنهم جميعا من أحفاد الشيخ «عثمان سليط»، وأنهم فى حالة من «الإخص» الشديد، وكأن مائة عام لم تمر على جائزة الإخص التى حصل عليها لطفى بك الديمقراطى.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 10

عدد الردود 0

بواسطة:

مصطفى عبد الحق محمد

وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا!!!

عدد الردود 0

بواسطة:

د.أشرف القصاص

القرن الأول و...........القرن الخامس عشر للهجرة

قطري بن الفجاءة و...............حازم أبو إسماعيل

عدد الردود 0

بواسطة:

mostafa

لايريدونها ديموقراطية

عدد الردود 0

بواسطة:

يسرى - جدة

مقال ممتع

عدد الردود 0

بواسطة:

ابو جلمبو

الاخص وبوزها

عدد الردود 0

بواسطة:

عاطف الشلبي

تشبيه رائع ـ عذرا لم يبق سوي البصق !!!

عدد الردود 0

بواسطة:

لامك

قصه لن تنتهى

عدد الردود 0

بواسطة:

ابو الليل

مقال جميل

عدد الردود 0

بواسطة:

spimakist

هو أنت مش هتخاف ربنا

عدد الردود 0

بواسطة:

tarek almasry

ارفع القبعة لسيادتكم

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة