صلاح عيسى

بكائية فى وداع الفنان الذى رفض أن تنشر «الأهرام» رسومه!

الأربعاء، 26 أكتوبر 2011 03:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عرفت فنان الكاريكاتير أحمد حجازى- الذى غادر عالمنا هذا الأسبوع- عام 1978، حين تزاملنا فى أسرة تحرير «دار الفتى العربى»، وهى دار نشر فلسطينية متخصصة، لعبت دوراً مهما فى تجديد أدب الكتابه للأطفال والفتيان، وكان أحمد حجازى قد توقف عن رسم الكاريكاتير السياسى على صفحات «روز اليوسف» بعد الانقلاب الذى حدث فى توجهاتها، بسبب معارضتها اليسارية للموقف الرسمى من مظاهرات الطعام فى 18 و19 يناير 1977، وهو موقف ساهمت رسوم «حجازى» - مع غيره من كتاب وفنانى «روز اليوسف»- فى شدّ المسخرة عليه، على نحو استفز الرئيس السادات، فأطاح برئيسى تحريرها صلاح حافظ وفتحى غانم، ورئيس مجلس إدارتها عبدالرحمن الشرقاوى، فى سياق حملة مكارثية لإقصاء كل ظل لليسار عن الصحافة والإعلام.

وجاءت موافقة «حجازى» على العمل ضمن أسرة تحرير «دار الفتى العربى» تعبيراً عن موقف اتخذه آنذاك، بأن يتفرغ لرسوم كتب الأطفال، بعد أن انسدّ الأفق السياسى- خاصة فى أعقاب زيارة الرئيس السادات للقدس المحتلة فى العام نفسه- ولم يعد ملائماً لرسم الكاريكاتير السياسى، وهو ما يفرض علينا - كما قال لى - أن نراهن على جيل المستقبل، وأن نشارك فى تأسيس جيل جديد يتشرب ثقافة المقاومة، ويتحمل مسؤولية تحقيق الأحلام الوطنية لجيلنا، والأجيال التى سبقتنا، والتى كان «حجازى» يؤمن بأن زيارة القدس سوف توقف زحفها، وتعرقل مسيرتها إلى أمد ليس قريبا.

وهكذا عاد «حجازى» إلى حيث بدأ، فهو ينتمى لذلك الجيل من رسامى الكاريكاتير المصريين، والذى ظهر على خريطة الصحافة فى أعقاب ثورة 23 يوليو 1952، فوجد مدرسة الكاريكاتير السياسى - التى ازدهرت فى مرحلة ما بين الثورتين- تتراجع، بعد أن توقف الصراع الحزبى الذى كان موضوع رسوماتها، وتخلق تيارا وطنيا عاما وجّه سهام هذا النوع من الكاريكاتير إلى الأعداء الخارجين.

وبشكل عفوى، احتشد هذا الجيل- الذى كان يضم فضلا عن «حجازى» كلا من صلاح جاهين، وجورج البهجورى، ورجائى ونيس، وناجى كامل، وإيهاب شاكر، وحاكم، ودياب- على صفحات مجلة «صباح الخير» التى صدرت عام 1956، لتكون منبرا لـ«القلوب الشابة والعقول المتحررة»، واتخذوا منها منصة لنشر إبداعات مدرسة الكاريكاتير الاجتماعى، انطلاقا من إيمانهم بأن مصر التى تحررت- بعد ثورة يوليو- من الإقطاع، واستكملت بحرب السويس، وتمصير الممتلكات الأجنبية استقلالها الوطنى، فى حاجة إلى تحطيم العلاقات الإقطاعية والاستبدادية التى لاتزال قائمة بين الحكومة والناس، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الرجل والمرأة، وبين الشيوخ والشبان.

ولم يكن هذا التيار من الكاريكاتير الاجتماعى بعيداً عن السياسة، بل كان أحد- وربما أهم - وجوهها، وكان فى جوهره تعبيرا عن الانتماء للثورة، على الرغم من أى خلاف معها فى التفاصيل. وبين المجموعة التى أسست لهذه المدرسة، تميزت رسوم «حجازى» بانتمائها لأكثر الطبقات فقرا، هؤلاء الذين تربى بينهم، إذ كان والده أحد عمال السكك الحديدية، وأمضى طفولته فى المعسكرات السكنية التى تقيمها المصلحة، بالتوازى مع خطوط القطارات لعمالها وأسرهم.

وكان ذلك هو ما شحذ قدرته على التقاط مظاهر التمييز الطبقى بعد الثورة، على نحو كان يثير اللبس أحيانا لدى قادتها. حدث فى عام 1960 أن رسم غلافا لمجلة «صباح الخير»، يصور فتاة أرستقراطية تستعرض دولاب ملابسها الذى يضم صفا من الشبان، معلقين على مشاجب، وتسأل نفسها فى حيرة: «يا ترى اخرج بإيه النهاردة؟».. فأثار ذلك غضب عبدالناصر الذى علّق على الرسم فى اجتماع ضمه برؤساء تحرير الصحف، بعد أسبوع من تأميمها، فقال إن هؤلاء لا يمثلون مجتمعنا، وإن على الصحف أن تكتب عن العمال والفلاحين، وليس عن فتيات النوادى، مع أن «حجازى» لم يكن يتحدث عن هؤلاء، ولكنه كان ينتقد وجودهم.

وذات صباح من عام 1980، عبّرت له عن دهشتى البالغة، لأنه رفض عرضا قدمته جريدة «الأهرام» بأن ينشر رسومه الكاريكاتيرية على صفحاتها يوميا، مستنكرا تجاهله لمدى التأثير الجماهيرى الذى يمكن أن يتيحه نشر رسومه فى أكبر وأعرق وأوسع الصحف العربية انتشارا.. فقال لى بهدوء: «تفتكر إيه نوع التأثير اللى ممكن «الأهرام» يسمح بيه لواحد زيى اليومين دول؟!»

ثم غيّر مجرى الحديث ليسألنى فجأة عن مجلة «الثقافة الوطنية» التى سمع أننى شرعت فى إصدارها، فأوضحت له بشىء من الخجل أنها ليست مجلة بالمعنى المعروف، لكنها نشرة تطبع بطريقة الماستر قليلة التكاليف، والتى كانت شائعة آنذاك، قرر عدد من الأدباء والفنانين الشبان المطرودين من فردوس المؤسسة فى تلك السنوات إصدارها دون ترخيص، وعلى نفقتهم الخاصة، ليقاوموا ما كان يجرى، فأدهشنى حين سألنى: «يا ترى ممكن أنشر رسومى عندكم؟!»

وأذهلنى حين أخرج من درج مكتبه رسما قدمه إلىّ وهو يقول بحياء: «أنا رسمت لكم فعلا».
أحمد حجازى.. مع السلامة يا جميل!








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

magda

masry

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة