معصوم مرزوق

كلام عيال!!

الأحد، 28 مارس 2010 07:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سألت الطفلة البديعة ميسرة والدها:"إذا كانت مصر هى أم الدنيا، فمن هو"بابا" الدنيا؟َ"، واحتار الأب كيف يجيبها، لأن أقرب إجابة وردت إلى ذهنه هى"أمريكا"، ولكن المشكلة هى كيف يمكن أن تتزوج أمريكا التى لا يزيد عمرها عن قرنين ونيف، من مصر ذات السبع تلاف سنة؟ بمعنى أن أمريكا لم تكن"بابا" الدنيا على مدى التاريخ، ربما كانت فقط كذلك خلال النصف قرن الأخير فقط، بينما مصر يعترف لها التاريخ بأمومتها منذ أن تعرف التاريخ على نفسه..

فى النهاية وجد الأب أن الحل العبقرى والإجابة الأيسر والأسلم هو أن يقول لها :" أن أمريكا تعتبر" عم" الدنيا، على أساس أن من يتزوج أمى أقول له يا عمى!!"، إلا أن تلك الطفلة المشاغبة لم تقتنع بهذه الإجابة، لأنها مصممة على أن تعرف من هو"بابا" الدنيا؟ ولم يتخلص الأب من هذه المشكلة إلا عندما شاهدت طفلته برنامجاً فى التليفزيون عن"بابا" الفاتيكان، فتوجهت إلى أبيها قائلة له بشكل ساخر:"لقد عرفت من هو"بابا الدنيا"..

ولا جدال فى أن العيال مشاكلهم كثيرة، وأسئلتهم محرجة، إلا أن أجاباتهم فى أحيان كثيرة تعبر عن الحكمة التى قد لا يدركها الكبار، وربما السبب فى ذلك هو أنهم يصلون إلى بعض الحقائق بشكل مبسط ومباشر دون تعقيد أو فذلكة أو تحفظات عقلية، لا تزال عقولهم طازجة بريئة طاهرة لم تتلوث بالرياء والنفاق والادعاء أو الخوف، وأسئلتهم – مثلهم – صغيرة بسيطة صريحة، واكتشافاتهم دائماً مدهشة مثيرة، وأحياناً كثيرة لها مغزى.

لذلك فقد عادت" ميسرة" بعد عدة أيام كى تقول لأبيها وكأنها اكتشفت كوكباً جديداً، أنها عرفت من هو" بابا" الدنيا الحقيقي، وأنها تريد أن تصحح معلوماته، لأنهـــا اكتشفت أن" البابا" الأول لا يمكن أن يكون" بابا" الدنيا، لأن الفاتيكان أصغر من مدينة السادس من أكتوبر، ولا يعقل أن يكون الأب أصغر من الأم.. وذلك بالطبع أمر منطقى.. واستطردت موضحة أن" بوش" هو" بابا" العالم بالتأكيد، مدللة على ذلك بأن الجميع يشكون منه فى التليفزيون، وقالت ضاحكة لأبيها" مثلما أشتكى منك طول الوقت".

لم يعترض أبوها على استخلاصاتها ووافقها عليها حتى يريح رأسه، ولكنه ما ارتاح، لأنها جاءته بعد عدة أيام لتسأله مرة أخرى:"إذا كانت مصر أم الدنيا، وبوش أبو الدنيا، فمن هم عيال الدنيا ؟"، وشعر الأب أن المسألة لن تنتهى، فاليوم عيال الدنيا وغداً خال الدنيا وعم الدنيا إلى باقى شجرة العائلة.. فقال لها بحكمة :" الحكاية كلها رمزية".. فسألته عن معنى الرمزية، وحاول أن يشرح لها وهى تنظر إليه بانتباه، وحين انتهى قالت له وهـى تتثاءب :" لا أفهم شيئاً.. يعنى مصر ليست" أم الدنيا" ؟.. يعنى الناس كذابين وهم يغنون" مصر هى أمى" وهذه الحاجات ؟"، ويبدو أن الأب قد شعر بأنه قد يتسبب فى ضعف المشاعر الوطنية لدى طفلته، لذلك فقد أكد لها أن مصر أم الدنيا ولكن الأب غير معروف...

وذات ليلة جاءته ودموعها تملأ عينيها قائلة له أنها حزينة من أجل الفلسطينيين، خاصة وأنها رأت جثمان طفلة فلسطينية قتلتها القوات الإسرائيلية، سألته ببراءة :" لماذا يقتلون الأطفال ؟" ثم أضافت وهى توجه حديثها إلى أبيها :" لماذا لا تذهب إلى إسرائيل وتعاقبها ؟"، واضطر الأب أن يروى لها الحكاية بشكل مبسط :" الحكاية يا ابنتى أن ناس جاءت من أماكن بعيدة وأخذت بيت ناس آخرين، ورمتهم فى الشارع، وهم يحاولون أن يأخذوا مجرد حجرة واحدة فى البيت بلا فائدة"، قاطعته بحدة :" ولكن لماذا لا يستعيدون البيت كله ؟.. أليس حقهم ؟"، مسح شعرها وقال لها فى حنان :" نامى.. هذا سؤال أعجز الدنيا كلها"...

المشكلة أنه لا يمكنه أن يمنعها من مشاهدة التليفزيون، ولكنها زادت تعقيداً عندما أصبحت قادرة على التعامل مع الحاسوب والدخول على شبكات المعلومات المختلفة، أنها من جيل مختلف، جيل يسأل ويعرف كيف يسأل !!.. ليس هذا فحسب، بل يبدو أنه جيل شكاك ( من الشك )، لا يقتنع بالإجابات البسيطة.. أن أباها يترحم على زمن كان أقصى ما يمكن الحصول عليه من معلومات يتطلب تمقيق العين فى آلاف من صفحات الكتب، والإعتماد على ذاكرة قد لا تخون.. زمن كانت كلمة الأب فيه فاصلة حاسمة، بينما كانت الأسئلة – إن طرحت – ساذجة تدور حول الخرافات والأساطير وحكايات الجدة عن العفاريت وأبى رجل مسلوخة..

وذات يوم جاءته وعيناها تطقان شرراً، وقالت له :" لماذا لا تحارب الإسرائيليين الذين يقتلون الأطفال ؟.. لقد قتلوا الليلة تسعة أطفال !"، وأحتار أبوها فيما يقوله لها، أجلسها أمامه وبدأ يحكى لها حكايات الجبهة وليالى الغارات فى قناة السويس، عن لحظة العبور والشهداء، عن تلك اللحظة المستحيلة التى ارتفع فيها علم مصر لأول مرة على الضفة الشرقية للقناة.. كانت تتابعه باهتمام وقد اتسعت عيناها، وكان يظن أن هذه الحكايات سوف تدفعها إلى النوم، مثلما كان يحدث له فى طفولته عندما كانت جدته تروى له الحواديت، لكنها وكأنها شربت ألف فنجان قهوة، منفجلة العينين، متحفزة، مستوعبة.. وفى النهاية، سألته بدهشة :" ولكن أين هو النصر والسلام الذى تحدثنى عنه ؟.. لا يزال الإسرائيليون يقتلون الأطفال.. أنا لا أصدق هذه الحكايات !!.. ولا يصح أن تكذب على !!"، ولكى ينقذ الأب مصداقيته أمام طفلته، كشف لها عن ساقه كى يريها أثر شظية أصابته أثناء حرب العبور، فقالت له ضـــاحكة :" ربما أصبت بها فى مباراة لكرة القدم !!"، ثم قالت له بشكل جاد :" عندما أكبر سوف أحاربهم بنفسى"...

ورغم أن الأب يسعد لجرأة هذا الجيل الجديد، إلا أنه يشعر بالأسى لفقدانهم الثقة فى آبائهم، ويتذكر أنه فى شبابه كان بين جيله يرددون" نحن جيل بلا آباء"، إلا أن ذلك كان مجازياً، وليس له علاقة بمسألة الثقة، وإنما كانت إشارة إلى أزمة المثقفين، وذلك يختلف مع الوضع الحالي، لأن الجيل الجديد لا يصدق جيل الآباء، بل أنه يراه عاجز عديم الجدوى.. فهل ذلك نوع من العقوق ؟، أم فشل فى التربية ؟ أم تلك هى طبيعة المرحلة ؟...

أن جيل الآباء الحالى يحاول بالإغداق على الجيل الجديد وتلبية طلباته أن يشترى" حب" هذا الجيل، إلا أن ذلك قد يؤدى إلى إفسادهم بحيث إذا جاءت ساعة مواجهة حقائق الحياة وصعوباتها، ينحنى بفعل طراوة النشأة وسهولة البداية، ومن ناحية أخرى إذا حاول الآباء زرع المبادئ والمثل التى تربى عليها فى الأبناء، فأنه قد يضيف الحرمان إلى أزمة الثقة، بما يهدد بانقطاع الحبل الصرى الذى يربط بين الجيلين..

كان الأب يفكر فى كل هذه الاسئلة حين دخلت طفلته على استحياء ثم عانقته بشدة وامطرته بقبلاتها، قالت له كلمات جميلة عن مدى حبها وتعلقها به، فشعر وكأن الدنيا تطير به إلى سماوات السعادة والرضا، وعبر لها بدوره عن أنها نور عينيه الذى يرى به، وعن أمنياته لها بالسعادة والصحة والتوفيق، ثم اعتذرت له عن ضعف درجاتها فى إختبارها الدورى الأخير ( وكان قد عاقبها بحرمانها من شراء الأقراص المدمجة التى طلبتها مؤخراً )، وعدته بأنها سوف تتفوق ورجته ألا يكون غاضباً عليها، وأسعده تراجع عنادها وتصلبها، وما أبدته من مشاعر صادقة خاصة وأنها أغلب الوقت أمام شاشة الحاسوب.. وبعد دقائق من ذلك المشهد العائلى البديع، قالت له فجأة :" إذن أنت سامحتنى"، فقال لها مبتسماً وطائعاً :" طبعاً يا حبيبتى"، فاستطردت بسرعة وهى تبتعد عنه :" سأقول لماما إذن كى نذهب اليوم لشراء الأقراص المدمجة"، ثم غادرت الحجرة وهو لا يزال فى مرحلة الإستيعاب !!..

بعد قليل، دخلت زوجته قائلة له بعتاب :" ضحكت مرة أخرى على ذقنك !!".. تحسس ذقنه، ثم قال لها وهو يهز رأسه يائساً :" ليس لى ذقن على أى حال !!"...

* عضو اتحاد الكتاب المصرى.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة