معصوم مرزوق

زيارة إلى ضريح الذكريات

الإثنين، 04 أكتوبر 2010 07:12 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قد يكون من المقبض أن يستدعى الإنسان مشاعرَ حزينة فى لحظة الفرح، ولكن ألم نكن أولئك الذين يقولون إذا ضحكوا من قلوبهم: "اللهم اجعله خيراً"، وكأنما يتوجسون من الفرحة أو كأن شيئاً ما فى لا وعيهم التاريخى أو جيناتهم الوراثية ينبههم إلى أن السكاكين الصدئة دائماً هناك متأهبة لاغتيال أجمل وأروع وأنبل اللحظات.

تمر علينا هذه الأيام ذكرى يوم من أروع الأيام فى تاريخنا المعاصر، يوم أن تجلت أروع معادن شعب مصر، حين اتخذ قراره وتغلب على قهره وخوفه كى يكتسح خط بارليف فى أفواج متتالية من شباب قرى ومدن مصر، وبشكل حير عتاة الاستراتيجية العسكرية، وأدهش العدو قبل الصديق.. كانت لقطة مكثفة من العطاء والاندفاع لنيل شرف الشهادة، أتصور لو أن عدسة قد التقطت صورة إجمالية بطول قناة السويس لظلت حتى اليوم تبدو وكأنها صورة أسطورية وغير حقيقية.. مليون شاب مصرى أعمارهم تتراوح بين بداية العشرينيات ونهايات الثلاثينيات يقفزون فى مياه القناة فى توقيت واحد غير عابئين بالأهوال، وملامحهم مقطبة جادة تعكس صورة تاريخية للإنسان المصرى حين يستجمع إرادته ويعقد العزم فلا يصبح المستحيل كلمة معروفة فى قاموسه.

وليعذرنى القارئ، فنحن على أى حال نحتفل بأعيادنا فى المقابر، وأهراماتنا الخالدة هى أكبر شاهد على قبر عرفه التاريخ.. ليعذرنى إذا كنت أصحبه فى يوم العيد إلى الضريح.. ضريح اليوم الكبير.

كالعادة سوف نجد أن المولد منعقد، والدراويش يدورون بمباخرهم، والمنشدون يكررون نفس المدائح المستهلكة، والجميع يترحمون على الفقيد الغالى، أو يتبركون بضريح اليوم العظيم، يتمسحون بجدرانه ويرفعون أكفهم بالدعاء.. سنجد من يدبجون المعلقات وتبح حناجرهم تعبيراً عن فرحتهم احتفالاً بمناسبة "مولد أكتوبر"، وبشكل لا يختلف كثيراً عن الموالد الكثيرة لأولياء الله الصالحين.. ثم تنقضى أيام الشهر المبارك، وينقشع دخان المباخر، ويجمع المنشدون مزاميرهم ودفوفهم، ويغلقون أبواب الضريح بحرص، ويغادرون فى انتظار حلول المولد فى العام التالى.

ولأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فمن الصعب على من عاصرهم أن يفارق صحبتهم يوماً من أيام العام، أو أيام العمر.. وجوههم الحبيبة فى الخيال دائماً، وذكريات الجبل والتدريب وتقاسم الطعام فى ليل الداورية القاسى، إنهم يقيمون مع من بقى على قيد الحياة من هذا الجيل الشامخ، ورغم أن عدد من بقى منهم حياً يتناقص كل عام، إلا أن وجود أى عدد منهم يظل هو الصوت الذى يردد أغنيات العبور الحقيقية، ولا يشارك فى مهازل الموالد الموسمية، ويرفض صوت الدراويش الذى حول إكسير الإرادة إلى تعويذة خرافية.

لقد كانوا شباباً لا تختلف ملامحهم عن شباب اليوم، لديهم أحلامهم وآمالهم الشخصية، يبكون ويضحكون، ويحتجزون فى قلوبهم مكاناً لحبيبة تنتظرهم.. بل كانوا يهزلون ويسخرون إذا اقتضى الموقف ذلك.. لم يكونوا عمالقة أو نفراً من الجن أو أولياء تزودوا بأسرار خاصة.. كانوا محمد وجرجس وفؤاد وعيسى.. الفلاح والعامل والمثقف والأمى، من سوهاج والمنيا والمنوفية والشرقية والمنصورة وحارات القاهرة.. كانوا تلخيصاً لكتاب مصر الجميل.. أروع صفحات هذا الكتاب.

لا أدرى كيف يرانا الرقيب الشهيد محمد عبد العزيز رضوان ورفاقه من الأبرار؟ أشعر بحضوره أثناء كتابة هذه السطور، وكأنه يسألنى عن الوعود والآمال التى كنت أحدثهم عنها، وكأنه يتذكر معى اليوم الذى دافعت فيه عن تأخر عودة الجندى محمد الراوى من إجازته أمام قائد الكتيبة، ثم استئذانى فى إجازة لمدة 24 ساعة كى أذهب بنفسى للبحث عنه فى منزله بالإسكندرية.. لقد وقف معى أمام الملجأ يسألنى لماذا تفعل ذلك؟.. ولم يندهش عندما قلت له إننا الآن أسرة واحدة، ويجب أن نصحح أخطاءنا بأنفسنا.. لم يدهشه ذلك رغم معرفته بحرصى على الانضباط، لأنه كان يعرف أيضاً أننا صرنا فى ملاجئنا أسرة متعاضدة فى السراء والضراء.

سيتذكر إصرار العريف جابر يواقيم على مشاركتنا فى صيام شهر رمضان، رغم إلحاحى عليه بأن يتناول الطعام، وكذلك اللحظة التى اشتبكنا فيها مع دبابات العدو فى اليوم التالى لوقف إطلاق النار، حيث واصل العدو بخسة الهجوم، حينها سقط جابر يواقيم مضرجاً فى دمائه بين آخرين من أفضل رجالى.. ولحسن الحظ لم نستطع أن ندفنه مثل باقى من سقطوا فى هذا اليوم 23 أكتوبر.. لأن العدو أصابه الجنون من مقاومة مجموعة صغيرة من رجال الصاعقة وصب جحيم قذائف طائراته المروحية والمدفعية على موقعنا، فلم نتمكن من دفن جابر.

بعد الحرب، كتبت بيدى شهادة استشهاده ووقعت عليها حتى تستطيع أسرته الحبيبة أن تتسلم الأوراق والمستندات الأخرى المتعلقة به.. وفى أحد الأيام كنت جالساً فى خيمتى بالجبل الأحمر حين سمعت صوتاً مألوفاً يستأذن فى الدخول، وفوجئت بأنه العملاق جابر يواقيم الذى اندفع يعانقنى بشدة، وأنا لا أستطيع السيطرة على دموعى التى انهمرت وأنا أنظر إليه كأننى أتطلع إلى شبح.

روى لى أنه بعد تنفيذنا للكمين الناجح وانسحابنا، نزلت طائرة مروحية للعدو ونقلته على الفور إلى أحد المستشفيات، وضحك قائلاً إنهم ظنوا أنه جنرال كبير، ولم يصدقوه كلما كان يقول لهم إنه عريف من الصاعقة.. ولذلك اهتموا بعلاجه كى يحصلوا منه على معلومات.. قال لى إن ذلك كان يحدث أيضاً مع جنود الصاعقة الأسرى، نظراً لتميزهم بالبنيان القوى والمظهر الوسيم.. وفى النهاية مارسوا عليه – كعادتهم – وسائل التعذيب.. قال لى إنه تذكر تعاهدنا على عدم الاستسلام لهم، وإنه الأكرم أن نموت ولا نقع فى الأسر.. ولكنه كان غائباً عن الوعى حين نقلوه بطائرتهم، ولم يكن أحد فينا يتصور أنه لا يزال على قيد الحياة، فقد كان يرقد بلا حراك فى بحيرة من دمائه.

عاش جابر يواقيم، واستشهد محمد عبد العزيز رضوان ومصطفى والسيد سلطان وغيرهم الذين خاضوا معى العديد من المعارك، واستشهدوا بعد أن أصدر مجلس الأمن قراره بوقف إطلاق النار.

ولم أكن أريد زيارة الضريح هذا العام، ولكننى أردت أن أرسل رسالة للدراويش الذين يريدون زرع الفتنة فى أرضنا الطيبة، أقول لهم فيها.. لقد دافع عن شرف هذا الوطن كل أبناء مصر، ولو أننا حافظنا على جوهرة ذلك الموقف العظيم فى قلوبنا وأعمالنا، لو أننا لم نحول دروس تلك الأيام المباركة إلى مدائح خرافية، لو أننا فهمنا أن أكتوبر لم تكن مجرد قرار، وإنما مئات الآلاف من أبناء هذا الوطن الطيب.. لو حدث ذلك لما تحول ذلك اليوم العظيم إلى ضريح نكتفى بزيارته كل عام للتبرك والتمسح به، ولتمسكنا بنسيج هذا التراب الذى اختلط بدماء كل المصريين بلا فرق.

• عضو اتحاد الكتاب المصرى








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة