ناصر عراق

لماذا تخاصم السعادة المصريين؟

الأربعاء، 04 مارس 2009 07:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"على الدولة أن توفر لجميع المواطنين حق التمتع بالسعادة" هذا هو النص الحرفى لإحدى مواد دستور كوريا الجنوبية، وعندما سألتهم أثناء إحدى زياراتى إلى العاصمة سيؤول عن كيفية تحقيق السعادة وهى شعور نسبى يختلف من شخص إلى آخر، كان جوابهم حاسما وواضحا، إذ قالوا لى الآتى:

هل يمكن أن يكون هناك إنسان سعيد وهو محروم من الوظيفة؟
هل يجوز أن يشعر إنسان بالفرح وهو يتقاضى راتبا شهريا لا يكفى تلبية حاجاته الأولية؟
هل يعقل أن تعترى البهجة أى إنسان لا يجد بيتا يأويه مع زوجته وأبنائه؟
ثم أضافوا:

هل تتخيل أن الحبور يستطيع أن يسرى فى شرايين إنسان لا يطمئن على صحته إذا تعرض لمرض وهو يعلم أنه ليس هناك مستشفيات مجهزة لاستقباله، كما لا يوجد تأمين صحى يغطى نفقات علاجه؟

إذن – يقول الكوريون – توفير الحاجات الأساسية للإنسان أيا كان وضعه الاجتماعى شرط أساسى لتحقيق ألف باء السعادة، وهى مهمة ـ يضيف الكوريون – يتحتم على الدولة القيام بها.

لا تنس من فضلك أننى اتحدث عن كوريا الجنوبية وهى دولة رأسمالية وليست اشتراكية، وأن تعداد السكان هناك يبلغ 50 مليون نسمة، وأن مساحتها تصل إلى عشر مساحة مصر تقريبا ( 99,274 كم مربع ).

تعاسة المصريين
لا يغيب عن فطنة اللبيب أن الحكومات المصرية فى العقود الأخيرة، فى حالة خصام دائم مع مفهوم السعادة – هل أقول العداء؟ - للشعب كما تراه وتطبقه حكومة كوريا الجنوبية، إذ أن السياسات التى ينحاز إليها النظام المصرى منذ أربعين عاما تقريبا وحتى هذه اللحظة أزاحت الشعب من اهتمامها، ونفت الجماهير من حساباتها، فلا هى وفرت الوظائف للملايين (بعض الأرقام تؤكد أن هناك 7 ملايين عاطل)، ولا هى تمنح موظفيها رواتب تكفيهم، فضلا عن أنها تركت الملايين يقطنون المقابر ويدبرون أماكم معيشتهم كيفما اتفق، حتى زاد عدد الأحياء العشوائية البائسة عن 50 حياً فى القاهرة وحدها! أما المرضى وما أكثرهم، فمصيرهم الموت أو رحمة المولى بعد أن صارت أحوال المستشفيات الحكومية التى تعالج الفقراء فى وضع لا يسر، وأصبحت أسعار الدواء الناجع تخاصم جيوب الفقراء.

هذا هو الوضع العام للغالبية العظمى من المصريين، فى الوقت الذى تتراكم فيه الثروة لدى عدة آلاف خطفوا السلطة والنفوذ والامتيازات، أما الملايين فيلهثون فى الصباح والمساء عسى أن يتمكنوا من تدابير تكاليف الحياة فى حدودها الاولية! فكيف يمكن لشعب منهك وحائر طوال الوقت أن يفكر فى قطف زهور السعادة؟ وكيف يستطيع إنسان رهن يومه بأكمله من أجل الحصول على مجرد لقمة العيش أن يرفرف طائر الفرح حول جبينه؟

تـاريخ البـؤس
المثير للدهشة أن الشعب المصرى طوال تاريخه المعلوم لم يكن فى حالة وئام مع فكرة الفرح، ذلك أنه كان منذورا على الدوام للكفاح المستميت من أجل ضمان الحصول على حاجاته الضرورية التى بالكاد يتمكن من توفيرها!

هذا الكفاح ظل ملازما للمصريين بامتداد كل العصور بما فيها عهد محمد على وأبنائه حتى سقوط الملك فاروق الذى كان المصريون يكابدون طوال فترة حكمه (1936: 1952) شدة الفقر بصورة مخيفة، لدرجة أن بعض "الأثرياء الطيبين" أطلقوا عام 1945 مشروع القرش لمحاربة الحفا، لأن ملايين المصريين لم يكونوا يمتلكون الحذاء أو (الشبشب) من فرط فقرهم الشديد.

أرجو ألا يظنن أحد أن عصور الملكية كانت كلها عسلا كما يروج كثير من الناس الآن، لا بل كان طعم الحنظل فى أفواه الملايين هو السائد، أما العسل فكان من نصيب الملك وأسرته والباشوات وحفنة من الأثرياء أصحاب الصلات الاقتصادية مع الرأسماليات الأجنبية، ولكن تلك قصة أخرى.

الفقر وعبد الناصر
لقد حاول عبد الناصر أن يحلحل الوضع المحزن لملايين المصريين (بلغ عددنا سنة 1952 نحو 18 مليون نسمة، وعند رحيل عبد الناصر عام 1970 وصل الرقم إلى 33 مليون نسمة تقريباً). أقول نجح عبد الناصر إلى حد معقول فى حلحلة الوضع المحزن من خلال إعادة توزيع الثروة وإنصاف المظلومين لكنه أخفق، لا ريب، فى تنمية الحياة الحزبية التى كانت مجرد جنين قبل الثورة، ومن ثم ضاعت تدريجياً "المكاسب" التى حظى بها ملايين الفلاحين والعمال والبسطاء فى عهده عندما تولى الرئيس السادت السلطة، وما زالت تضيع حتى الآن!

عبقرية النكتة المصرية
حسنا، إذا كان الحال هكذا، فقر وبؤس وحرمان، فكيف نفسر خفة الظل المصرية التى ليس لها مثيل؟ وكيف نعلل الحضور الطاغى للنكت المصرية ذات السمعة الطيبة فى العالم العربى؟
سأستعيد معك ما كتبه عالم الاجتماع الجليل الدكتور سيد عويس الذى قال إن المصريين يقاومون الفقر والبؤس والقهر وجبروت الحكام على مر التاريخ بعدة أمور، أولها: الدعاء على الظالم. وثانيها السخرية منه وابتكار النكتة التى تفضح سلوكه. أى أن "السعادة" الناتجة عن النكتة أو خفة الظل، ليست دليل رفاهية فى الحياة أو بحبوحة فى العيش، بل هى تأكيد على سطوة الحرمان ومشقة الأيام واستبداد السلطات. ولأن الشعب المصرى واسع الحيلة، فقد تمكن عبر القرون من اختراع النكت التى تيسر له التكيف مع الأوضاع الظالمة والحكام الفاسدين.

ملحوظة محزنة أعتذر عن ذكرها:
إذا قدر لك أن تدعى إلى تناول طعام الغداء أو العشاء فى "بوفيه مفتوح"، فانظر كيف يلهث المصريون ويتزاحمون حول البوفيه لملء أطباقهم عن آخرها بصورة لافتة، على الرغم من أنهم لن يستطيعوا الإتيان عليها كلها. إنه سلوك عفوى ناتج عن حرمان تاريخى يؤكده ذلك الإصرار على الحفاوة الكوميدية بـ"اللحمة" فى الأفلام والمسلسلات.

باختصار شديد:
إذا كانت الدولة فى كوريا الجنوبية توفر لمواطنيها حق التمتع بالسعادة، فالشاهد أن الدولة عندنا ماهرة جدا فى توفير حق التعاسة للشعب!








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة