براء الخطيب

محمد السيد سعيد.. نلتقى على خير

الأحد، 11 أكتوبر 2009 07:55 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت قد دخلت فى مرحلة الدوخان التى تسبق نومى كالعادة عندما رن جرس هاتفى المحمول بجوارى لينبهنى لتلقى رسالة، فتحت الرسالة لأجدها من الصديق القديم الكاتب "خالد جويلى"، وكان نص الرسالة "الزملاء الأعزاء، توفى الآن د. محمد السيد سعيد"، مات إذن؟ اقتطع الموت قطعة من لحم الحى لجيل تعذب كثيرا بعد نكسة67، قاتل الله المرض والطغاة والأحزان، وقاهرى الشعوب، قاتل الله الخونة والجواسيس وعملاء أجهزة الأمن وأصحاب الأقلام المأجورة والكلمات الكاذبة والثروات المدنسة والضمائر الميتة والكراسى السلطوية المتسلطة على رقبة الوطن، فقد كان كل هؤلاء أعداءك يا أميرى.

"محمد السيد سعيد"، أخى الأكبر الذى يصغرنى سنا بأربعة أعوام، أستاذى الذى منحنى شهادة الميلاد لأول ما كتبت، كنت قد كتبت مسرحية من فصل واحد بعنوان "تكنولوجيا" متأثرا ومقلدا فى كتابتها لمسرحية "الوافد" التى كتبها "ميخائيل رومان" وعندما اندلعت مظاهرات الطلبة سنة 68 تعبيرا عن غضب عارم من الأحكام الهزيلة التى صدرت بحق قادة النكسة فى سنة 67 ، وعندما اندلعت المظاهرات وانخرطنا جميعا فيها وطاردتنا أجهزة الأمن فركبت القطار من "الإسكندرية" هربا إلى "القاهرة" ولم يكن معى ثمن رغيف خبز واحد وكان كل ما حملته معى هو "الكشكول" الذى كتبت فيه مسرحيتى الساذجة التى كانت تندد بحكام النكسة فى مباشرة فجة كما قال لى ذلك "محمد السيد سعيد" الطالب بالسنة الأولى بكلية "الاقتصاد والعلوم السياسية" الذى تعرفت عليه وسط أجواء المظاهرات واصطحبنى إلى بيت فى حى "المنيل" حيث تناولنا الطعام وبعد أن قرأ المسرحية قال رأيه فيها وقد صدمت طبعا برأيه.

لكنى بعد ثلاثة أيام من وجودى فى القاهرة غادرتها راكبا قطار الصعيد وفى هذه المرة كنت قاصدا جامعة أسيوط، وفى أجواء المظاهرات فى جامعة أسيوط تعرفت على رئيس اتحاد الطلبة فى الجامعة وكان طالبا فى كلية الطب اسمه "يحيى إبراهيم" فساعدنى على ظهور مسرحيتى على مسرح جامعة أسيوط من تمثيل بعض طلبة الجامعة وإخراج طالب فى كلية الهندسة اسمه "سمير رشدى" وبعد ذلك بثلاثة أيام تركت أسيوط ولم أر بعد ذلك مطلقا وإلى اليوم كلا من "يحيى إبراهيم" أو "سمير رشدى"، وتركت "أسيوط" إلى "السويس" قاصدا "معهد البترول"، لكنى فى هذه المرة ركبت سفينة فى البحر فحملتنى إلى ميناء "العقبة" فى المملكة الأردنية، لكن هذه قصة أخرى، ومرت الأيام والسنون وجاءت سنة 74 تقريبا وعملت أنا بوظيفة "أخصائى إعلام" حيث ساعدنى زميلى السابق فى كلية آداب الإسكندرية "عمر البرعى" على الالتحاق بالثقافة الجماهيرية.

فى اليوم الأول لتسلمى العمل قابلت "محمد السيد سعيد" فى مكتب "عمر البرعى"، فعرفت أنه يعمل محررا بجريدة الأهرام ووجدته ما يزال يذكر المسرحية التى كتبتها وقرأها هو وأبدى فيها رأيه، وكان معه الكاتب الكبير "جلال جميعى" والشاعر الكبير "محمد سيف" حيث اصطحبنا "جلال جميعى" إلى بيتهم فى حى "المنيل" وشملتنا السيدة الفاضلة أمه بكرمها الخرافى وأطعمتنا طعاما ما زلت أستشعر حلاوته حتى هذه اللحظة، ومن هذه الأيام توطدت علاقتى بـ"محمد السيد سعيد" وتعلمت منه الكثير، إلى أن حدث وابتعدت عن الحياة العامة قرابة العشرين سنة لم أعد أراه فيها إلى أن ذهبت للفيوم ذات يوم منذ عامين تقريبا لزيارة صديقى الحميم الكاتب الكبير "عبده جبير" وبعد يومين من زيارتى له فى الفيوم فوجئت بالدكتور "محمد سيد سعيد" يطلبنى على الهاتف، وجرت بيننا محادثة طويلة أصر فيها "محمد" على أن أقطع عزلتى وأقابله على مقهى فى "الهرم" قريبا من بيتى .

عندما تقابلنا أخبرنى أنه بصدد إصدار صحيفة باسم "البديل" وطلب منى الكتابة للجريدة فاعتذرت موضحا له أسبابى الخاصة التى تمنعنى من الكتابة فى الصحف، وألح هو وأصررت أنا على الاعتذار، لم يكن يريدنى أن أكتب فى "البديل" لأنى "كاتب محصلتش" بل كان يريد إخراجى من عزلتى، كان يريد لى أن أسترد نفسى وحياتى العامة لكنى كنت فى حالة نفسية لا تسمح لى بذلك وتعانقنا وقال لى: "نلتقى على خير"، وانصرف هو، إلى أن جاءتنى رسالة "خالد جويلى" على هاتفى المحمول، وتمر الأيام يا صديقى، وتجرى المياه فى الأنهار، ويتغير الجميع من حولنا وتتغير الحياة نفسها وتتعقد العلاقات بين البشر، لكن سوف يبقى وجهك بكل الكبرياء والنبل يملأ وجدان كل من عرفك.

مات "محمد السيد سعيد" طالب السنة الأولى بكلية "الاقتصاد والعلوم السياسية"، مات "محمد السيد سعيد" الصحفى بجريدة الأهرام"، مات الدكتور "محمد السيد سعيد" المفكر والكاتب الكبير والمناضل الشريف دفاعا عن حرية الوطن، لكن أستاذى وصديقى الحبيب لن يموت بالنسبة لى إلا مع موتى، إنه مجرد غياب مؤقت كما كنت تغيب عنا سفرا أو كنا نغيب عنك، والآن تفتح لى الذكريات معك بابا لتمنحنى متعة البكاء الطويل ومشقة العويل الجرىء، يقف الحزن الآن بين وجهك وبين دموعى، أيها اليابس النحيل يا من كنت أكثر صلابة من الحديد، يا من كنت فارس الكلمة النبيلة وعبقرى الفكرة اللماحة والعشق المستحيل لوطن ينكر أبناءه، وها أنت يا أميرى تنام فى سكون العاشق الذى أجهده العشق، بعد أن تسلل إلى جسدك مرض خسيس، دون أن يستطيع كل أخساء وأوغاد الأرض التسلل إلى روحك، ها أنت يا أميرى تنام بلا أوسمة من نظام حكم بغيض، بعد أن منحت أنت الوطن وسام الدفاع عن شرفه، وأنت كنت هناك دائما، واقفا فى شموخ تحرس وطنا كان- وما يزال- بابا للتاريخ العاصف، وطنا لا يجيد إلا تقطيع أشجاره الباسقات، ومثلك يا أميرى من كان يمنح نهر الفقراء ماءه، مثلك يا أميرى من كان يعتصر الأمطار المرة لينقيها من مرارتها ليشرب منها الجميع، تزهر فى قلبى المريض الليلة كل أشجار اللوعة، فقد دخلت فى زمن الفراق الطويل، الليلة يا أميرى يصبح الموت أليفا كالقط المنزلى، فبعد خبر موتك لا غرابة لأى خبر، فنم يا أميرى فى هدوء، فالآن زالت عنك- أخيرا- كل الأغانى المريرة وكل دموع الأمهات الثكلى وكل عذابات أرامل الشهداء الذين زاملتهم فى سنة 73 وها أنت تسرع الخطى إليهم، وبعد أن تصحو من غفوتك، سوف تكون مع كل زملائك الذين استشهدوا فى حروب الوطن، مع كل أرواح الذين دافعوا عن شرف هذا الوطن ورحلوا عنا، فنم يا أميرى، إنها مجرد غفوة بسيطة تغفوها، وبعدها، سوف نلتقى على خير.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة