د.عبد الفتاح مراد

ما المقصود بأن القضاء الإدارى قضاء إنشائى؟

الخميس، 17 مايو 2012 10:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أثار الكاتب الكبير الأستاذ/ خالد صلاح فى مقاله فى صحيفة «اليوم السابع» بتاريخ 11/5/2012 تساؤلا عميقا عن «كيف نفهم القضاء الإدارى؟».

وفى سبيل تبسيط الإجابة عن هذا التساؤل فإنه يتردد بين العامة والخاصة مصطلح «أن القضاء الإدارى قضاء إنشائى أو قضاء خلاّق أى يخلق القواعد القانونية» فما هو المقصود بهذه العبارة؟
يُقصد بهذه العبارة أن القضاء الإدارى المصرى يُصدر – مثل القضاء الإدارى الفرنسى – أحكاما كبرى يطلق عليها الفقه والقضاء باللغة بالفرنسية Les grands arrêts، ومن أمثلة هذه الأحكام حكم محكمة القضاء الإدارى بوقف تنفيذ القرار الصادر بتشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، والحكم الأخير لدائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا بإلغاء جزء من حكم محكمة القضاء الإدارى ببنها ببطلان دعوة الناخبين لانتخابات رئاسة الجمهورية، وحكم وقف تنفيذ قرار تصدير الغاز إلى إسرائيل وتعديله فيما بعد من المحكمة الإدارية العليا، وحكم إلغاء القرار الإدارى السلبى الصادر بالامتناع عن استبدال الحرس الجامعى وغيرها، ويرجع خلق وإبداع هذه الأحكام إلى أن القضاء الإدارى يتميّز أكثر من القضاء العادى فى أنه قضاء إنشائى، أى أنه يقوم بإنشاء وخلق القواعد القضائية حتى ولو لم ترد صراحة فى النصوص القانونية، وأن الواقع العملى يشهد على أن القضاء هو مصدر رسمى من مصادر صنع القانون الإدارى، بل إن القضاء كمصدر يغلب فى هذا الفرع من فروع القانون على التشريع ذاته كمصدر للقانون، وهو الأمر الذى نرى معه أن القانون الإدارى يُعتبر قانونا قضائيا بصفة أساسية، حيث يشغل القضاء أهم مصادر القانون الإدارى، فهو يعتلى بين هذه المصادر المركز الممتاز الذى يعتليه التشريع بالنسبة للقانون المدنى.
حيث أصبحت حكمة القضاة وحصافتهم هى التعبير الناطق والحى الذى يخلق قواعد القانون، ومن ذلك أن نصف قواعد التقنين المدنى المصرى – وليس القانون الإدارى فقط – هى من خلق القضاء فى ظل التقنين المدنى القديم.
ويستند القاضى الإدارى عند إنشائه لقواعد القانون الإدارى إلى القانون الدستورى الدولى international Constitutional Law The ونصوص المعاهدات الدولية السارية المتعلقة بحقوق الإنسان، وإلى نصوص الدستور، والمبادئ العليا فوق الدستورية Supra constitutional.
ومن المصادر الدولية للقضاء ما صدر فى يونيو 1995 عن المؤتمر الدولى لحقوق الإنسان فى فيينا- كما جاء فى موسوعتنا عن حقوق الإنسان- من تقرير حق الإنسان فى الحكم الرشيد أو الإدارة الرشيدة «Good government» وذلك كحق جديد من حقوق الإنسان والذى يشكل- وبحق-تطورا نوعيا فى مجال هذه الحقوق، وهو يتعلق فى المقام الأول بدور الدولة ووسائل تدخلها. فلم يعد الأمر مقتصرا على التزام الدولة بكفالة حقوق الإنسان وحمايتها استعمالا لما يتقرر لها من امتيازات السلطة العامة فى التشريع والإدارة، بل أصبح الأمر يمتد ليشمل تنظيم وسائل الإدارة ذاتها والأساليب التى تستخدمها تلك الإدارة.
فبمقتضى مفهوم حق الإنسان فى الإدارة الرشيدة يشترك المواطنون فى الإدارة، ويكون من حقهم أن تتمتع إدارتهم بقدر كبير من الحكمة والحصافة والرشاد مثل غيرها من الحكومات الرشيدة فى العالم .
وقد استندت محكمة القضاء الإدارى المصرى فى حكم «وقف تصدير الغاز إلى إسرائيل» إلى نصوص الدستور مثل المادة 123 من الدستور المصرى لسنة 1971 – الملغى – والتى تنص على أنه:
«يحدد القانون القواعد والإجراءات الخاصة بمنح الالتزامات المتعلقة باستغلال موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة، كما يبين أحوال التصرف بالمجان فى العقارات المملوكة للدولة والنزول عن أموالها المنقولة والقواعد والإجراءات المنظمة لذلك».
كما استندت محكمة القضاء الإدارى فى حكم «إلغاء الحرس الجامعى» إلى أن التعديل الدستورى لدستور 1971 – الملغى – قد تضمن فى المادة الأولى من الدستور المنشور بالجريدة الرسمية المصرية فى العدد 13 مكرر فى 31/3/2007 والتى تنص على أنه:
«جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطيا يقوم على أساس (المواطنة)،‏ والشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة‏»‏.
فالمواطنة كانت هى الأساس الأول لقبول صفة ومصلحة أساتذة الجامعة المدعين فى تلك الدعوى، وهى أوسع نطاقا وأعلى فى تدرّجها وقمتها وقيمتها الدستورية من مجرد الصفة والمصلحة المقصودة فى القانون، طبقا لنص المادة «3» من قانون المرافعات والمادة «12/أ» من قانون مجلس الدولة رقم 47/1972، كما كانت الحريات العامة المنصوص عليها فى الدستور المصرى هى الأساس الثانى لهذا الحكم.
وقد أكدت تلك الحريات الدستورية العامة الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية العليا المصرية- فى حكم آخر كبير- من أحكامها ذات المبادئ، حيث قضت بجلسة 1/11/2008 فى الطعن رقم 4383 لسنة 53 ق «بأن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أنه باستعراض أحكام الدستور يتبيّن أن المشرع الدستورى جعل من الحرية الشخصية حقا طبيعيا يصونه بنصوصه، ويحميه بمبادئه، فنص فى المادة «41» منه على أن «الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تقييد حريته بأى قيد أو منعه من التنقل، إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضى المختص أو النيابة العامة، وذلك وفقا لأحكام القانون».
الأمر الذى يؤكد يقينا أن القضاء الإدارى – وبحق – قضاء إنشائى وخلاّق يُصْدر أحكامه بناء على المُوجّهات العامة فى القانون الدستورى الدولى والاتفاقيات الدولية والدستور والقوانين والسوابق القضائية، وأن القضاء الإدارى مصدر أصلى للقانون الإدارى.
ونحن نرى أن ذلك لا يعنى أن القاضى الإدارى قد أصبح مُشرعا، لأنه يوجد هناك فارق شاسع بين التشريع كمصدر رسمى للقانون وبين القضاء كمصدر أصلى للقانون الإدارى، ويدرك فهم القضاة المهنى لعملهم وحكمتهم جيدا الحدود الدقيقة الفاصلة بين المصدرين.
ولا شك فى أن أى حكومة رشيدة سوف تكون فخورة بأن يستمتع مواطنوها بحقهم الدستورى فى المواطنة الفعلية وفى حماية القضاء الإدارى لحقوقها وحقوقهم الدستورية وحقهم فى التقاضى أمام القضاء الإدارى على درجتين، حتى لو اختلفت أحكام القضاء الإدارى الإنشائى الخلاّق من درجة إلى أخرى، لأن العبرة هى بالحقيقة الأخيرة التى تقرها المحكمة الأعلى، وقد أقرّت تلك الحقيقة أخيرا دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة