كيف تحول من تظاهرة ثقافية إلى ثكنة عسكرية

فى معرض الكتاب.. الأمن قبل الكتب وفوق المثقفين

الجمعة، 30 يناير 2009 01:38 ص
فى معرض الكتاب.. الأمن قبل الكتب وفوق المثقفين
كتبت سارة سند

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄اسرائيل السبب فى عسكرة المعرض حينما شاركت فى 1981 وهى السبب فى حصار معرض هذا العام بسبب حرب غزة
◄الأمن اعتقل اليساريين من أجل إسرائيل فى الثمانينيات وأغلق المعرض الجمعة خوفا من مظاهرات الإخوان

كلما جاء ذكر معرض القاهرة الدولى للكتاب، يجب أن تذكر الأمن. كأنه تطبيق غير مباشر لمقولة جوبلز «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسى»، ومع أن المعرض حدث ثقافى، والمعروضات فيه كتب وأفلام وندوات، ورواده فى العادة مثقفون يبحثون عن الجديد فى عالم النشر والأفكار. فقد ارتبط المعرض بمشهد سيارات الأمن المركزى التى تحاصر مداخل وخارج المعرض وبواباته. ويتعرض رواده لتفتيش دقيق، وينتشر مخبرو أمن الدولة، وترى رجال البوليس العلنى والسرى وأصوات أجهزة اللاسلكى.

العلاقة بين الأمن ومعرض الكتاب قديمة تمتد لأكثر من ربع قرن. تحول معرض القاهرة الدولى للكتاب إلى ثكنة أمنية، تتناقض مع حدث ثقافى. والسبب ليس الثقافة، لكنه الخوف من المثقفين والمظاهرات، كان معرض الكتاب منذ الثمانينيات أحد الأماكن التى يمارس فيها السياسيون والمثقفون اعتراضاتهم السياسية. أما السبب الأهم فهو إسرائيل التى بالرغم من غيبتها ومنعها من حضور معرض الكتاب طوال 28 عاما لكنها تحولت دائما إلى شرارة لإشعال غضب المثقفين، ومظاهراتهم. وبالمصادفة فإن إسرائيل هى التى كانت السبب فى عسكرة معرض الكتاب بعد محاولة حضورها عام 1981، وكانت ايضا السبب فى فرض الأطواق الأمنية وحصار المعرض يوم الجمعة الماضية، حيث فرضت أجهزة الأمن طوقا من الأمن المركزى خوفا من مظاهرات الغاضبين فى المعرض بعد حرب غزة.

أربعون عاما هى عمر معرض الكتاب، عندما فكر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1969، فى الاحتفال بالعيد الألفى لإنشاء قاهرة المعز، قرر ثروت عكاشة وزير الثقافة وقتها أن يقيم أكبر معرض للكتاب فى الشرق الأوسط ليسمى بعد ذلك بمعرض القاهرة الدولى للكتاب ويعهد بمسئوليته للكاتبة سهير القلماوى التى كانت ترأس الدار القومية. يومها ولد معرض الكتاب الذى تجاوز دوره كتجمع ثقافى ليصبح شاهدا على الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية، المحلية والدولية مع القضايا الثقافية.

وبالفعل أصبح معرض القاهرة أكبر معرض للكتاب بالشرق الأوسط، ويأتى فى المرتبة الثانية بعد معرض فرانكفورت الدولى بحسب تصنيف موسوعة ويكيبيديا، لكن ما لم يتخيله عكاشة أن يكون هذا المعرض الثقافى فى الأساس، مكانا تتحكم فى فتحه وإغلاقه مباحث أمن الدولة، تارة بين الكتب (العدو الأول لأى تفكير أمنى)، وتارة أخرى بين الندوات الثقافية والسياسية.
السياسة هى التى حولت معرض الكتاب إلى مكان تحت سيطرة الأمن بشكل مبالغ فيه، فبعد سنوات من تظاهرات الطلبة والعمال فى السبعينيات ليطالبوا الرئيس السادات بخوض الحرب ضد إسرائيل، هدأت المظاهرات لفترة بعد انتصار أكتوبر، لكن سرعان ما بدأ الرئيس السادات مسيرته لإنهاء حالة الحرب واعتبار «حرب أكتوبر» هى آخر الحروب، وبعد أن اتخذ قرارات الانفتاح تطورت الأمور لتصل ذروتها إلى زيارة القدس، وعقد معاهدات السلام مع إسرائيل عام 1979. وقدم وعودا بالتطبيع السياسى والثقافى مع إسرائيل كان من ثماره الموافقة على مشاركة إسرائيل بجناح فى معرض الكتاب.

لم ينته تدخل الأمن فى معرض الكتاب مع انتهاء الحرب، بل على العكس من ذلك يمكن القول إنه بدأ، وازداد حدة وشراسة.. وتدخلا، مع بداية سياسة الانفتاح وتحول السادات إلى صورة «الرئيس المؤمن» اتخذ الشاعر أحمد فؤاد نجم ورفيقه الشيخ إمام ومعهما الحاج مدبولى ساحات المعرض مكانا لمناهضة حكمه، ليصل الاحتجاج والرفض ذروته مع معاهدة السلام المنفردة بين مصر وإسرائيل.. نجم يؤلف الأشعار والشيخ إمام ينشدها لزوار المعرض ومدبولى يطبعها. معرض الكتاب وقتها كان يسيطر عليه بشكل أساسى وشعبى الاتجاه اليسارى، لم يستطع أمن الدولة اعتقال الفاجومى وإمام وإغلاق كشك مدبولى وقت المعرض خوفا من إحداث ثورة أكبر، إنما انتظروا حتى انتهاء المعرض ليعتقلوا المشاغبين.

كان هذا نقطة صغيرة إذا ما قورنت بما حدث مع الراحل صلاح عبدالصبور الشاعر الكبير الذى كان يحظى باحترام الوسط الثقافى بسبب مواقفه الجريئة، ومنها رفضه قبول مبايعته أميرا للشعر العربى خلفا لأحمد شوقى فى محاولة من السلطة لاستمالته، لكن بسبب عمله كرئيس لهيئة الكتاب المصرية عام 1981 التى جاءت والمعارضة لاتفاقيات كامب ديفيد على أشدها، وأرغم على استضافة جناح إسرائيل فى المعرض الذى كان ما يزال فى أرض المعارض بالجزيرة التى بنيت مكانها دار الأوبرا.

وكانت هذه أول وآخر مشاركة إسرائيلية بمعرض الكتاب، وهو الموقف الوحيد الذى نجح المثقفون فى الانتصار على الإرادة الأمنية والسياسية، الجناح الاسرائيلى فشل وقاطعه الجمهور ولاحقته المظاهرات، وعلى الرغم من الحصار الأمنى للجناح، استطاع بعض شباب الجامعة اختراقه وإنزال العلم الإسرائيلى وإحراقه، وتم إلقاء القبض على الشباب واعتقالهم فى ساحة المعرض وحبسهم فى إحدى قاعاته، الأمر الذى لم يرض عبدالصبور وتدخل لإطلاق سراحهم واصطحبهم إلى مكتبه، ويقول الشهود وقتها إن عبدالصبور ظل صامتا وتوجه ناحية النافذة وأعطاهم ظهره، وبدا لهم أنه يرتعد ويرفع يده إلى وجهه، كأنه يمسح دموعه ثم نظر إليهم نظرة اعتذار وأمرهم بالانصراف دون إكمال أمر الاعتقال.

الرئيس السادات لم يفتتح معرض الكتاب على مدار 11 عاما هى عمر سنوات حكمه، فلم يكن الرئيس السادات على علاقة طيبة بالثقافة والمثقفين، وعندما تولى الرئيس مبارك الحكم حرص على افتتاح معرض الكتاب كل عام، يصاحبه لقاء مع المثقفين والكتاب، وكان اللقاء بعد إطلاق سراح المعتقلين على خلفية سبتمبر قبل اغتيال الرئيس السادات عاملا لإطلاق حالة من الارتياح بين المثقفين. سرعان ما تحولت المناسبة إلى روتين. حيث الدعوات توجه إلى أشخاص بعينهم ويتم الأمر تحت أعين وبمعرفة أجهزة الأمن.

وخلال الثمانينيات والتسعينيات تكررت عمليات مصادرة الكتب بإيعاز من أجهزة الأمن أحيانا، وأحيانا أخرى كان الأمن يكثف وجوده أيام ارتفاع هجمات الإرهاب، وأيضا حين وجود ندوات ومحاضرات يجرى فيها توجيه انتقادات إلى النظام السياسى، مثلما جرى مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذى كان يلقى بمحاضرة على رواد المعرض، سرعان ما توقفت وتم الاعتذار له.

وهناك حادث شهير كان طرفه الدكتور محمد السيد سعيد الذى منع من ندوات المعرض بعد أن وجه سؤالا للرئيس اعتبره الأمن غير لائق وهى قصة معروفة.

لم تتوقف قبضة الأمن عن مضايقة المثقفين والقبض عليهم أو الاعتداء عليهم بالضرب، وحسب شهادات عدد كبير من رواد المعرض، فإن قبضة الأمن استمرت حيث تكررت عمليات القبض والاعتقال فقد تم القبض على الصحفى إبراهيم الصحارى ومروة فاروق من مركز الدراسات الاشتراكية بتهمة «توزيع منشورات تخل بالأمن العام»، والمنشورات لم تكن سوى إصدارات المركز فى الجزء الخاص بدار ميريت للنشر. فى العام التالى تعرض الناشر محمد هاشم للضرب المبرح أمام رواد المعرض واختطف أحد رجال أمن الدولة حقيبته لأنه شارك فى مظاهرة سلمية تابعة لحركة «أدباء من أجل التغيير» ومعه أكثر من عشرة من الصحفيين والناشطين.

الروائى فتحى إمبابى الذى تم احتجازه داخل قاعة المقهى الثقافى بمعرض الكتاب لأكثر من ساعتين بعد مشاركته فى مظاهرة لا يتعجب من التعامل الأمنى، ويرى أن المشكلة ليست فى رجل الأمن إنما فى سيطرة «جهاز» على المعرض بحيث يتم مصادرة الكتب، وإعداد الأفكار مسبقا حتى لا يكون هناك قضايا اشتباكية يتم مناقشتها بالمعرض. المفارقة فى واقعة احتجاز إمبابى هو العنوان الذى اتخذه معرض الكتاب شعارا له فى سنتها «آفاق النهضة والاصلاح».

التفكير الأمنى المسيطر على قيادات معرض الكتاب لا يقتصر على اعتقال المتظاهرين، إنما امتد أيضا ليشمل ندوات المعرض، التى فقدت بريقها وخلت من الشخصيات الناقدة والمثقفين الكبار فى عهد رئاسة الدكتور سمير سرحان لهيئة الكتاب. وبرر ناصر الأنصارى رئيس هيئة الكتاب عدم عقد ندوات تتناول مشاكل العراق ولبنان والسودان بـ«عدم التدخل فى الشئون الداخلية لتلك الدول».

ويفسر الشاعر شعبان يوسف تصريح الأنصارى بأن الانصارى كان ضابطا مسئولا عن أمن دار الأوبرا المصرية قبل توليه رئاسة هيئة الكتاب، ويدلل على الملاحقة الأمنية للندوات أنه تم منع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل من إقامة ندوة بالمعرض بسبب آرائه السياسية، هذا بخلاف محمد السيد سعيد بعد واقعته مع الرئيس.

الضرب والاعتقال من الدلائل الواضحة على تدخل الأمن بشكل كبير فى معظم فعاليات معرض الكتاب لكن الفكر الأمنى يرفض حتى هذه اللحظة، الاعتراف بذلك، محمد عبد الغفار لواء أمن دولة سابق يرى أن أى احتكاك من الأمن للمتظاهرين يكون دائما المتظاهر هو السبب لأنه يعترض عمل ضابط الشرطة الذى لا يهاجم المتظاهرين، ومسئوليته تكون فى تأمين المظاهرة. وعن منع شخصيات بعينها من إقامة ندوات بالمعرض يستشهد عبد الغفار بالمثل الشعبى «اللى يتجوز أمى أقوله ياعمى» مشيرا إلى أن ضباط الشرطة.

«الشعب المصرى غير ناضج كفاية ليحصل على الديمقراطية» ليست فقط وجهة نظر أحمد نظيف رئيس الوزراء التى صرح بها قبل ذلك، إنما هى أيضا نفس ما قاله اللواء عبدالغفار الذى يرى المظاهرات السلبية كثيرة وتسودها روح القطيع.

يود كل مسئول عن المعرض فى العشرين عاما الأخيرة أن يحتوى الأسبوع على ستة أيام فقط، ليستثنى «يوم الجمعة» باعتباره المشكلة الأزلية التى يعانيها معرض الكتاب كل عام، وبشكل أكثر تحديدا، المشكلة فى «صلاة الجمعة». لم يعد اليساريون هم أصحاب الصوت الأعلى وحل محلهم الإخوان المسلمون، خاصة بعد انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، ومادامت المظاهرات للإخوان فيجب أن تكون يوم جمعة.

معرض الكتاب جاء ليعيد العلاقة مرة أخرى بين الدولة والإسلاميين وجعلهم يتفقون على مبدأ واحد وهو «مصادرة» الكتب.. أمن الدولة بالمعرض لم يتوقف فقط عند اعتقال الناشطين والأدباء إنما ذهب أيضا لمصادرة الكتب وتعطيل ندوات، فصودرت كتب مثل «أسماء مستعارة»، و«الباب المفتوح» لعبدالرحمن منيف، و«تاريخ الجنون» لـ ميتشل فوكو من الجمارك، كما تم منع كتاب »الخطأ والتأويل» لـ نصر حامد أبوزيد، بالإضافة إلى مصادرة معظم مطبوعات مركز الدراسات السياسية والاشتراكية، وكتب أخرى سياسية مثل مذكرات حسن عزت.

أما بالنسبة للإسلاميين، فبرغم أن قانون الأزهر رقم 103 لعام 1961 قد خول مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر حق مراقبة بعض الكتب، فإنه قصرها على كتب القرآن والسنة، ولم يمنحه حق القيام بالمصادرة بنفسه، غير أن لجنة من مجمع البحوث قامت بمصادرة ثمانية كتب بنفسها، من معرض القاهرة الدولى الرابع والعشرين للكتاب، منها كتب المستشار محمد سعيد عشماوى، وفى 2008 طالب مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بمنع دخول كتاب «علوم الحديث عند الزيدية والمحدثين» للكاتب اليمنى عبدالله بن حمود العزى لحماية أفكار المجتمع الإسلامى من البلبلة، كما جاء فى بيان أصدره الأزهر.

وزارة الثقافة تفرض أجندة ثقافية خاصة وتحيطها بقيود كثيرة من يخترقها يصبح مغضوبا عليه، مثلما حدث فى أزمة الروايات الثلاث قبل سنوات، والتى ضحى فيها الوزير برئيس هيئة قصور الثقافة الناقد على أبوشادى.. تجدد الموقف من الوزارة مرة أخرى عندما قررت هيئة قصور الثقافة منع طباعة أربعة كتب، منهم روايتان للكاتبتين أمينة زيدان وصفاء عبد المنعم كانتا أنجزتهما بمنحة من وزارة الثقافة، وديوانان للشاعرين حلمى سالم وحسن طلب، ومصادرة ديوان الشاعر العباسى أبى نواس وكتابين آخرين من التراث.

وفى دعوة مختلفة للتخلص من قبضة الأمن على معرض القاهرة للكتاب يدعو الكاتب الروائى علاء الأسوانى أن تتولى شركة خاصة مسئولية معرض الكتاب، مشيرا إلى أن المشكلة ليست فى الأمن فقط، إنما المشكلة فى الحكومة عندما تقرر تنظيم أى شىء لأن تفكير الدولة أمنى بالأساس، بالإضافة إلى وجود قانون الطوارئ.

الأسوانى يرى أن معرض الكتاب هو الشىء الوحيد الذى سترفض الدولة بيعه أو إسناده إلى هيئة خاصة لأنه لو حصل ذلك فلن تستطيع مراقبته والتحكم فيه. ويتعجب الأسوانى من منطق الأمن فى الاعتقال والمنع لأن ذلك يتناقض مع فكرة الكتاب فى المعرفة.

إذا استطعت أن تفلت من قبضة أمن الدولة الذى سيحيطك من كل الاتجاهات سواء على بوابات معرض الكتاب، أو داخل المعرض متنكرا فى زى مدنى، واستطعت أن تفلت مرة ثانية من الأمن «الدينى» المتطرف فى كثير من الأحيان، واستطعت مرة أخيرة أن تفلت من الأمن الفكرى لوزارة الثقافة... فهنيئا لك بمعرض الكتاب هذا العام.

لمعلوماتك...
21 عاما مدة بقاء فاروق حسنى وزيرا للثقافة
5 فبراير موعد انتهاء معرض الكتاب هذا العام









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة