أحمد عبدالمعطى حجازى

هل يحق للفرنسى أن يشكشك دمية رئيسه؟

الجمعة، 21 نوفمبر 2008 02:46 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الذى أثار السؤال من جديد عمل من أعمال المعارضة لا يخلو من جرأة وطرافة، وربما اعتبره البعض نوعا من العنف الرمزى أو المعنوى.
هذا هو السؤال الذى كان مطروحا على الفرنسيين خلال زيارتى الأخيرة لباريس بين أواخر الشهر الماضى وأواسط الشهر الحالى، أو أنه سؤال من الأسئلة التى كانت مطروحة عليهم فى هذه الأسابيع الأخيرة. وفى فرنسا يتحول طرح الأسئلة إلى عملية مثيرة تتجاوز موضوع السؤال إلى ما يتصل به من موضوعات وما يستدعيه من أفكار وتواريخ وحقوق وقيم، تتسع بها المناقشة وتغتنى وتصبح نشاطا جماعيا ممتعا يغرى بمتابعته والمشاركة فيه، بصرف النظر عما تسفر عنه المناقشة من إجابات لابد أن يكون فيها الصائب والخائب، خاصة حين تدور حول أسئلة تهم الجميع، ويشارك فى الإجابة عليها عامة الفرنسيين.

هناك أسئلة توجه للبعض مع أنها تهم الكثيرين، سؤال فى الطب مثلا، أو فى كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، أو فيما يجب عمله لإصلاح التعليم، هذه أسئلة لا توجه فى الغالب إلا للخبراء، أما السؤال عما يحق للفرنسيين وما لا يحق لهم فى ممارسة نشاطهم الثقافى والسياسى، وفيما يدور بينهم وبين رؤسائهم من حوار، وما يرسم لهذا الحوار من حدود لا يجوز لطرف من الطرفين أن يتعداها، وما يقع فيه من اتفاق واختلاف، هذا السؤال المتصل بحقوق المواطن الفرنسى وواجباته، سؤال يهم الجميع، ويشارك الجميع فى طرحه والإجابة عليه، لا فرق بين المؤيد والمعارض، أو بين الخبير القانونى والمواطن العادى.
لكن ما الذى أدى لطرح هذا السؤال القديم وإثارة الحديث من جديد حول حقوق المواطن وواجباته، وعلاقته بالسلطة وعلاقة السلطة به؟

الذى أثار السؤال من جديد عمل من أعمال المعارضة لا يخلو من جرأة وطرافة، وربما اعتبره البعض نوعا من العنف الرمزى أو المعنوى، فهو دمية من قماش على هيئة الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى كتبت عليها عباراته التى أخذها عليه معارضوه مثل قوله «اعملوا أكثر تربحوا أكثر»، فالعمل ليس متاحا دائما لمن يطلبه، وفى فرنسا الآن كما فى كثير من بلاد العالم مئات الآلاف من العاطلين، وإذن فالذى يعانى منه هؤلاء ليس سببه أنهم يعملون أقل، بل سببه أنهم لا يُمكّنون من العمل، من هنا اعتبرت هذه العبارة تسترا على المشكلة وإخفاء للحقيقة، ومما قاله الرئيس ساركوزى فأغضب المهاجرين الأجانب قوله «المهاجرون نعم! لكن بشرط أن نختارهم!» وقد فهم المهاجرون العرب والأفارقة بالذات من هذه العبارة معنى التمييز، واعتبروها موقفا سلبيا منهم، أما الثالثة فهى العبارة التى نطق بها الرئيس الفرنسى فى العام الماضى حين زار معرضا زراعيا ومد يده لأحد الحاضرين يريد أن يصافحه فرفض الرجل مصافحة الرئيس الذى عبر عن غضبه بعنف شديد فطلب من الرجل أن يبتعد واصفا إياه بالحيوان!

هذه الدمية التى صنعت من قماش أزرق وطرزت بهذه العبارات وضعت فى صندوق صغير مصحوبة باثنتى عشرة إبرة وكتيب يحتوى على ست وخمسين صفحة يتضمن سيرة ضاحكة للرئيس الفرنسى وإرشادات تبين للقارئ ما يجب أن يصنعه بهذه الدمية التى استوحاها صانعها من بعض الطقوس الدينية التى حملها العبيد السود معهم من أفريقيا إلى هايتى وسواها من جزر الأنتيل الواقعة جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الطقوس الدينية المسماة بالفودو يلعب فيها السحر دورا رئيسيا ويستعان فيها بدُمى تمثل الأعداء والخصوم الذين يتغلب عليهم أتباع الفودو بأن يَخِزوهم بالإبر فينصرف عنهم شرهم، وهكذا يصنع الذين اشتروا دمية الرئيس الفرنسى التى بدأ عرضها فى المكتبات الفرنسية فى التاسع من شهر أكتوبر الماضى فوزعت حتى الآن خمسة عشر ألف نسخة، إنهم يعبرون عن معارضتهم له بأن يخزوا أو «يشكشكوا» دميته بالإبر!

وكما عبر صانع هذه الدمية عن رأيه فى الرئيس الفرنسى عبر عن رأى مماثل فى السيدة سيجيلين رويال زعيمة الحزب الاشتراكى الفرنسى والمنافسة الرئيسية للرئيس ساركوزى فى الانتخابات التى فاز فيها برئاسة الجمهورية الفرنسية، فصنع لها دمية مماثلة اختار لها اللون الأحمر، لكن الغضب لم يذهب بسيجيلين رويال إلى حيث ذهب بساركوزى الذى رفع محاميه دعوى عاجلة يطالب فيها بسحب الدمية من السوق، لأنها تشوه صورة «موكله فى نظر الرأى العام، على حين اكتفى محامى الزعيمة الاشتراكية بأن يقول إن الدمية «تسىء إلى كرامة الكائن البشرى»، دون أن يطالب بسحبها.

وقد نظرت القضية يوم الأربعاء الأسبق أمام محكمة باريس التى حكم برفض الطلب الذى تقدم به محامى الرئيس، واعتبرت الدمية تعبيرا عن رأى، وهو حكم عارضه محامى الرئيس الفرنسى وقال إن الدمية دعاية سياسية، وميز بينها وبين الكتيب الذى صاحبها، فقال إنه لا يطالب بمصادرة هذا الكتيب ولا بسحبه، وإنما يطالب فقط بسحب الدمية التى يجب الفصل بينها وبين الرأى المكتوب. لكن محامى الدار التى أصدرت الدمية والكتيب رفض الفصل بينهما، وقال إنهما عمل واحد لا علاقة له بالدعاية، ولم يعرض فى دكان لبيع اللعب، وإنما عرض فى المكتبات لأنه تعبير عن رأى وعن موقف أخلاقى.

وهذا هو الرأى الذى مال إليه كثير من المتحاورين، لم يميزوا بين الدمية، والكتاب، لكنهم ميزوا طبعا بين الدمية والرئيس، فالدمية ليست هى الرئيس، وإنما هى إشارة تدل عليه، وهى فى هذا لا تختلف عن اسمه المكتوب، وكما يحق للكاتب أن يذكر اسم الرئيس فى مقالة ينتقده فيها، يحق لصانع الدمية أن يمثله بدمية ويشكشكها تعبيرا عن رأيه فى سياسة الرئيس، وفى هذه الحالة تكون الشكشكة نقدا ولا تكون تعذيبا أو تجريحا، أما إذا وحدنا بين الدمية والرئيس وجعلناها امتدادا لشخصه فنحن فى هذه الحالة نقدسه ونحوله إلى وثن، وهذا هو المعنى الذى أدى بالقاضى إلى أن يحكم برفض سحب الدمية من السوق، لأن الرؤساء فى النظم الديمقراطية ليسوا مقدسين!

وحول هاتين الوجهتين فى النظر إلى هذه القضية دارت المناقشة الممتعة التى تبنتها الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية الفرنسية التى وجهت هذا السؤال للفرنسيين:
هل يجب السماح ببيع هذه الدمى باسم حرية التعبير؟ أم يجب منعها باسم احترام حقوق الغير؟
وقد أجاب على السؤال كما رأينا أطراف القضية، وأجاب عليه القضاء الفرنسى، وأجاب عليه أيضا عامة المواطنين الذين وقف معظمهم إلى جانب بيع الدمية، وطالب الباقون بسحبها.

ولقد غادرت باريس ومازال السؤال مطروحا، ومازال الجدل دائرا بين الأطراف القانونية والسياسية التى يرى بعضها أن الرئيس ساركوزى يقحم العدالة فى معارك سياسية لا يفصل فيها القانون، وإنما يفصل فيها العمل السياسى الذى يجب أن يتميز بسعة الصدر، على حين ترى أطراف أخرى أن الأوان قد آن للدفاع عن هيبة الدولة التى تأثرت بما شهدته فرنسا من أحداث خلال العقود الأربعة الماضية ابتداء من ثورة الطلاب والعمال سنة 1968 حتى حوادث الشغب التى وقعت فى ضواحى باريس منذ عامين.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة