جمال دربك

الثورة فى بَرِّ مصر

السبت، 15 أكتوبر 2011 10:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كلما شاهدت سلوك المصريين فى الشوارع سيطر على ذهنى سؤال أعجز عن التخلص منه بسهولة، وخاصة أننى لا أجد له إجابة. هل حقا يحب المصريون مصر؟

هذا السؤال يتبادر إلى ذهنى متلازما مع المثل المصرى المعروف: "أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب"، فواقع الأمر أنه لا يوجد فى سلوك المصريين ما يشير من قريب أو بعيد إلى ذاك الحب الواعى للوطن، ولكنه مجرد حب عاطفى تتلاعب به الأهواء والأغراض والمصالح، وقد تَشوَّه عبر عقود طويلة بوساخات الحكم الساقط الذى حوّل علاقة المواطن بالوطن، إلى علاقة استنفاع فقط، حيث كان المصريون عبر الثلاثة عقود الأخيرة يرون مجموعة من الفاشلين واللصوص ينهبون وطنهم، ولا يتركون للمواطنين شيئا إلا منّة أو منحة، فصار الناس يعتمدون أسلوب "اللى ييجى منه أحسن منه"، وهو ما شوه تلك العلاقة المقدسة التى كانت تربط المصريون بمصر، والتى كانت تميزهم عن بقية شعوب الأرض، بشدة الانتماء، والحب المطلق، رغم عدم مبادلتها لهم حبا بحب.

فمنذ نجاح "ثورة يناير" – إذا كانت قد نجحت فعلا - وحتى الآن تفاقم السلوك السلبى للمصريين إلى حد التطرف فى الرداءة، وظنوا إثماً وعدوانا أن ما أتيح لهم من حرية يعطيهم الحق فى استغلالها بأسوأ ما يمكن استغلاله، وهو ما أعطى أيضا لأعداء الوطن فى الداخل والخارج الفرصة لاستغلال هذا السوء بأكثر سوءًا لسحق هذا الوطن وانهياره.

ورغم ما استطاعت "ثورة يناير" أن تستخرجه من نفوس المصريين من معادن نفيسة، إلا أن تلك النفائس بطبيعتها تأتى مختلطة بالخبث والنفايات، والتى ساعد على تنميتها وتغذيتها وإظهارها العديد من العوامل والعملاء فى آن معا، منها تخاذل عناصر الشرطة عن حماية الوطن وأمنه فى وقت الشدة، ورهنت انتماءها للوطن والشعب بمكاسبها الشخصية سواء بسلطة مطلقة يعتدون من خلالها على كرامة الشعب وأرزاقه، أو بأرباح مادية تضاف إلى رواتبهم مقابل لا شىء، ورغم ذلك مازالوا على رأس العمل، أو من خلال إدارة متخبطة للمرحلة، تحاول إعادة إنتاج النظام ذاته الذى ثار الشعب ضده، غير مستوعبين لجلال الحدث الذى صار، خاصة وأنهم لم يشاركوا فيه، ولم يعربوا عبر السنوات الطويلة عن رفضهم للحالة المتردية الذى وصلت إليها مصر خلال عقود الحكم الفاشل الذى أشاع الفشل والفساد فى كل أركان الدولة.

كان الأمل يرفرف بجناحيه فى سماء المحروسة عقب نجاح "ثورة يناير" فى الإطاحة برأس الفشل، ظنا أن سقوط الرأس سوف يسقط الجسد، ولكن ما جرى غير ما أمل فيه الكثيرون، حيث ظل الجسد متماسكا، بل حاول إعادة إنتاج نفسه بطرق وأساليب مختلفة، حتى أنه يكاد أن يعود ولو على جثة الوطن ذاته، من خلال إشاعة الفتن وتغذية الفوضى، والتآمر على مصر والمصريين، والسبب ببساطة هو فشل الثورة فى استلام زمام المبادرة واتخاذ القرار، وترك المجال لمن خان الوطن عبر ثلاثة عقود أن يهاجم الثورة ويتآمر عليها، دون محاكمة حقيقية، ولا عقاب على ما اقترفه، بل إن قتلة المصريين من رجال الشرطة مازالوا على رأس العمل، ومنهم من تمت ترقيته، وكذلك العديد من القيادات الحكومية والإدارية، وذلك من خلال إيهام الناس بأن ذلك هو التحضر والتسامح والديمقراطية، وهو فى حقيقته لا يتعدى كونه غفلة وعدم كياسة، ومحاولة ساذجة لإظهار حسن نية فى غير موضعه.

فثوابت التاريخ تقول إن الأمم والشعوب تثور عندما يصلون إلى مرحلة حدية من التردى، يرفضون عندها مزيدا من الانهيار، وهى نقطة استنارة تمر بها الأمم الطامحة، لتُعبِّر فى لحظة تاريخية عن تطلعات أجيالها الثائرة إلى حياة أكثر رُقيًّا فى الحاضر والمستقبل.

وحسب تاريخ الثورات الحقيقية فى العالم، والتى قد يصاحبها بعض الفوضى أحيانا، إلا أن رغبة الشعب الثائر فى التغيير والتطور، تدفعه إلى تجاوز تلك المرحلة إلى مرحلة الإصلاح الحقيقى والجذرى، والوعى بقيمة ما أنجزه والحرص على البناء عليه، وليس هدمه أو تشويهه.

ولكن فى مصر، التى تُمصِّر كل الأشياء حتى الثورات، يبدو أن الشعب الذى أنجز عملا شديد الرقى، أبى إلا أن يشوهه بيده لا بيدٍ أخرى، حيث لم يُبدِ وعيا كافيا بما حققه، كما لم يعى القائمون على إدارة المرحلة معنى الثورة، خاصة وأنهم لم يكونوا من الثائرين، أو حتى من الرافضين لحالة التردى التى عمت كل تفاصيل الحياة ومفاصلها، بل وأصابت الذهنية المصرية ككل بنفس الرداءة التى كانت تدار بها البلاد، على مدار ثلاثة عقود من الفشل والفساد.

فهل بعد ما وصلنا إليه الآن يمكن أن نعتبر أن ما قام فى مصر ثورة، ولو كانت ثورة، فهل هى ناجحة؟
لقد عرفت مصر العديد من "الهوجات" عبر تاريخها الطويل. ربما أشهرها ما اصطلح عليه بعض المؤرخين باسم "هوجة عرابى"، وهو الاسم الذى درج شعبيا عن الثورة العرابية، رغم أنها لم تكن هذا ولا ذاك، بل كانت حركة وطنية قام بها ضباط فى الجيش المصرى ضد الحكم الخديوى وحلفائه من المستعمرين، ولكن يبدو أن الحس التاريخى للشعب المصرى، لا يرصد الأحداث فقط، بل يقيِّمها وفقا لمدى نجاح الفعل من عدمه، ومدى تأثيره فى الواقع وفى المستقبل.

وقياسا بـ"هوجة عرابى" كما أسماها المصريون، والتى كانت مجرد حركة ضباط، لم ترقَ لمستوى الثورة ولا الانقلاب العسكرى، ولكنها ألقت حجرا فى المياه الراكدة، وما لبثت تلك المياه إلا أن هاجت وماجت، ثم عادت إلى مستقرها الآسن دون تغيير يذكر.

ولأن "ثورة يناير" هى حتى الآن آخر "الثورات" التى عاشها المصريون، فهى إذا قيست بالفعل الثورى لن تتعدى كونها انتفاضة شعبية أطاحت بحاكم فاشل، ولم تطح بنظامه الفاسد، ولم تغير فى الواقع شيئا، إلا النذر اليسير، كما لم تغير -وهو الأهم- فى ذهنية الشعب، الذى لطخه الفساد والإفساد والتلوث عبر عقود طويلة.

تلك حالة "اللا تغيير" الإيجابى التى أعقبت "انتفاضة يناير"، هو ما قد يخرجها تاريخيا فى ثقافة الشعب المصرى أيضا من خانة الثورة، ويدخلها إلى خانة الهوجات، التى ينتفض فيها الشعب ويهيج غضبا من واقع محدد، فيعبر عن غضبه بشكل ثورى، ويُحدث تغييرا محدودا، ثم ينقلب الوضع تدريجيا حتى يعود إلى ما كان عليه، وفى كثير من الأحيان عبر التاريخ أيضا، يُعلَّق هؤلاء الثائرون فى المشانق، عاجلا أو آجلا.

فثورة يناير، رغم ما قامت به من عمل عظيم، فإن من يطالع الساحة المصرية اليوم، لن يتردد فى القول: إن تلك الثورة لم تنجح فى شىء غير إسقاط رأس النظام، وقد يكون ذلك قد حدث عن طريق التفاف تكتيكى ممنهج من أركانه، الذين يبدو أنهم فضلوا التضحية برأس نظامهم الفاسد، للحفاظ على بقية الجسد كله.
فلم يحدث فى تاريخ الثورات الحقيقية فى العالم، أن تجد ثورة تُهاجَم ليل نهار من أعدائها، ويتم التشكيك فى شهدائها، ويهان ذويهم، ويهدد الثوار بالاعتقال والملاحقة، ولا يستطيعون تنفيذ مطلب واحد من مطالبهم، وغير قادرين على تغيير أى شىء حتى محاكمة قاتليهم، ولم يبق لهم سوى خطوة واحدة، وهى تقديمهم هم أنفسهم للمحاكم ومن ثم المشانق، لتتم الدورة كاملة كما عرفها تاريخ الهوجات الشعبية، التى تندلع، ثم تهدأ، ثم يتم تبريدها، فتجميدها، فتفكيكها، ففرمها بالكامل، دون أن تفضى إلى شىء من أهدافها.

ولكن فيما يبدو أن "انتفاضة يناير" إن لم تكن ثورة حقيقية، فهى مجرد إرهاصة ثورة سوف تجتاح مصر من جديد من أقصاها إلى أقصاها، من أجل تحقيق طموحات المطحونين فى هذا الشعب بأيديهم هذه المرة، لا بيدِ عمرو.

فتلك الانتفاضة التى حدثت تركت – بلا شك - آثارها فى وجدان الشعب، ولن يقبل مرة أخرى بالعودة إلى المربع صفر، حيث اكتشف هذا الشعب الثائر أن زحف الملايين لا يمكن وقفه أو كسره أو السيطرة عليه، وهى الوصفة التى جربها فى يناير وفيما بعده لعدة مرات، وإذا كان لم ينجح فى استغلالها بالشكل المطلوب آنذاك، فإنه هذه المرة سيجتهد فى التغيير بنفسه، وهو ما سيخرجها من سلميتها التى لم تحقق شيئا، إلى فعل آخر هو الأكثر ثورية وإنجازا وتحقيقا للمطالب.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة