خيرى شلبى

جناية لا تغتفر

السبت، 03 سبتمبر 2011 03:55 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان الفنان أنور منسى أشهر عازف كمان فى تاريخ الموسيقى المصرية المعاصرة، كان قاسما مشتركا فى أشهر الألحان خاصة ألحان محمد عبدالوهاب ومحمد فوزى وغيرهما، ولكى نعرف من هو، يكفى أن نتذكر أغنية عبدالوهاب العتيدة «النهر الخالد»، حيث تهدر فى آذاننا وصدورنا صهللة الكمنجة التى تمهد لمقطع: سمعت فى شطك الجميل، ما قالت الريح للنخيل، مصورة بالأنغام نشوة الريح إذ هى تفضى للنخيل بمقالتها، وتقيم عرسا بهيجا يزف الصبايا اللاتى شربن من خمرة الأصيل.. تلك هى كمنجة أنور منسى بأصابعه الماسية.

كان اللحن - أى لحن - يختلف تمام الاختلاف إذا شارك فيه أنور منسى بكمانه، هنالك فوارق حاسمة بينه وبين غيره، فى الإحساس، فى الخيال الخلاق، فى سخونة الشعور، فى الحرفنة الفطرية فى عفق الأوتار، فى مرور القوس فوقها بإنسانية فياضة، إن بالضغط على الوتر، أو بمصافحته، أو بمجرد المداعبة ولو بلمسة خاطفة، ثمة شرايين خفية موصولة بين الأنامل والوتر وحركة القوس وقلب العازف وخياله. عبر هذا الاتصال الموصول تتخلق لمحات فيها أفكار نيرة تضيف إلى اللحن الأصلى عمقا يرج المشاعر يحقنها بالرقة والليونة.

لهذا بكته مصر كلها يوم رحيله وهو فى التاسعة والثلاثين من عمره فى ميتة عبثية مؤلمة، حيث وقع من فوق حصانه فى سفح الأهرامات وبقيت قدمه عالقة بالركاب والحصان يواصل الركض مذعورًا، فدمر عظامه، وفى جنازة احتشد فيها جميع فنانى مصر، وتصدرت الصحف صورة عبدالحليم حافظ يرتمى على صدر عبدالوهاب الذى كان بدوره محتاجًا لمن يكفكف دموعه المنثالة خلف النظارة السوداء.

زواجه من المطربة صباح كان أشهر زيجة فى الوسط الفنى، وكان مصدر فخر لصباح، لأنه جعل من عازف الكمان نجمًا مرموقًا لا يقل مكانة فى قلوب الجماهير عن الملحن والمطرب، إلا أن انفصالهما بعد خمس سنوات قد عيشه فى قلق، حيث فازت صباح بحضانة ابنتهما الوحيدة هويدى وكان هو يتمنى لها أن تنشأ وسط عائلته الملتزمة بالمبادئ الإسلامية سيما وأن هويدى مسلمة على دين أبيها فانشرخ قلب أنور قبل رحيله من فرط قلقه على مستقبل ابنته، ولكن يبدو أنه سيئ الحظ حيا وميتًا.. فها هو ذا، هذا الفنان العظيم طيب الذكر يظهر فى مسلسل الشحرورة رجلًا هزأة، منحرفًا يلعب القمار، مستهترًا مغامرًا، يبتز زوجه صباح، بضربها بوحشية إن بخلت عليه بأموالها، بل ويزور شيكا باسمها.. إلخ! أما شخصية الفنان المبدع فقد غابت تمامًا، وظهرت بدلًا منها شخصية البلطجى الذى يعيش على قفا زوجه الفنانة!!!

المؤسف، إضافة إلى هذه الجناية التى لا تغتفر، أن هذه الصورة الزائفة الشوهاء هى التى سوف تبقى فى ذاكرة الأجيال ليس فحسب لأن القنوات التجارية سوف تعيد إذاعتها مثنى وثلاث ورباع، وإنما - إلى ذلك - لأن أى حديث بعد ذلك عن صباح أو انور منسى سوف يستخدم فقرات من هذا المسلسل، كأنه هو الواقع التاريخى وتلك هى الكارثة: أن نصطنع تاريخا زائفا شائها لمبدعينا ومفكرينا وزعمائنا، ثم نرسخه فى الوجدان القومى على أنه هو التاريخ.

إن هذا محض عبث وإجرام، وافتئات على الحقائق وعلى التاريخ، فضلًا على أنه تكريس للانحطاط والتدنى وانعدام الضمير، ويبدو أننا أصبحنا فى احتياج إلى تشريع قانونى يحكم هذه الآفة القاتلة التى انتشرت فى الدراما التليفزيونية العربية باسم السيرة الذاتية للمدعين، وأصبحت سوقا لطائفة من تجار الإعلانات لا دراية لهم بالإبداع على الإطلاق، ولا يعرفون الفرق بين السيرة الذاتية والسيرة الهلالية، يعبثون بتاريخ مبدعينا ويتسلقون على أمجادهم ويلفقون لهم أسرارا يبيعونها لنا بأثمان باهظة، وقد يلحقون العار بأهليهم وأحفادهم الباقين على قيد الحياة!








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة