خيرى شلبى

لحظة موجعة

السبت، 27 أغسطس 2011 04:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عرفت الممثل الفنان توفيق الدقن عن قرب أيام أن كنت أكتب الدراما الإذاعية فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، فقامت بيننا صداقة وطيدة استمرت إلى يوم رحيله وأجريت معه عشرات الحوارات لمجلات وصحف عديدة، كان يضم بين جوانحه شخصية شاعر مرهف الحس دافئ المشاعر واسع الخيال سريع التأثر مندفع الانفعال كأن أعصابه أسلاك كهرباء عارية، تكهرب من يلمسها بغير عازل من اللياقة واللباقة والجدية، كان متحيزاً للقيمة، وضد الاتبدال، يعتبر المسرح قدس أقداس الفن، على خشبته يتألق، يمثل التراجيديا والكوميديا بنفس الدرجة من الانضباط والالتزام بالمسؤولية لا يعرف الخروج على النص مطلقاً، وكانت الأدوار الموسومة بالشر ذات التراكيب الاجتماعية المعقدة تذهب إليه تلقائياً من جميع المخرجين حيث لا ينافسه فيها أحد، لا المليجى ولا فريد شوقى ولا عادل أدهم، وإذ كان موهوباً فى أن يجعل للشخصية جذوراً اجتماعية واقعية بصورة يختفى منها التمثيل فيشعر المتفرج عليه أنه يرى جزءاً أصيلاً من واقعه الذى يعيشه وأنه يعرف هذه الشخصية حق المعرفة، وكان بارعاً فى اختيار «الإفيه» المناسب لكل شخصية يستخدمه من الواقع الاجتماعى للشخصية، أقرب مثال على ذلك «الإفيه» الشهير فى فيلم «أحبك يا حسن» أحلى من الشرف مفيش.

ومن عجب أن هذه الشخصية الإيجابية النابعة من موهبة مدعوكة فى الحياة، بقدر ما أسعدته وأسهمت فى توسيع شعبيته كانت هى نفسها السبب فى تعكير مزاجه بقية عمره، بل تركت فى نفسه قرحة موجعة لم يفلح فى علاجها ولم يفلح الشراب فى حجبها عن مزاجه أثناء الأداء على المسرح، ذلك أنه كان قد تألق فى دور فى مسلسل تليفزيونى شهير اسمه «بنت الحتة» يقوم على عصابة من عتاة المجرمين وكعادته ركز توفيق الدقن على «إفيه» مستمد من حوار الشخصية هو «آلو يا همبكة» ظل يردده طوال المسلسل بإيقاعات صوتية وتلوينات وجه متعددة حتى باتت همبكة أشهر شخصية فى جميع أنحاء مصر وكان توفيق يفرح بالنجاح حين يلتقيه الناس فى أى مكان فيحيونه بقولهم: «آلو يا همبكة».

لكنه ما لبث حتى أفاق ذات لحظة حرجة بصدمة قاسية، كان واقفاً على خشبة المسرح القومى يؤدى دوراً جاداً فى مسرحية عالمية، وفى اللحظة التى كان فيها مندمجاً حتى النخاع فى أداء أحد المواقف الدرامية، والجمهور فى القاعة صامت لاهث الأنفاس يتابع بشغف، وهالة من جلال الفن الجاد تهيمن على الجميع وعلى المكان، وعند تصاعد انفعال توفيق إلى ذروة سوف يختتم عندها هذه الفقرة من هذا المونولوج، إذا بمتفرج سخيف سليط اللسان - لعله حديث عهد بارتياد المسارح الجادة - يصيح من آخر القاعة بلهجة سوقية، ربما بسلامة نية وعلى سبيل التحية وإبداء الإعجاب قائلاً بأعلى صوته: آلو يا همبكة!.. فضج الجمهور بالضحك.. باخ انفعال الممثل كأنما قد ألقى فوق رأسه برميل من الماء القذر.. ولا أحد غير الله يعرف أية جهود مضنية بذلها الممثل لتجميع نفسه واسترداد لياقته فى الأداء!

فى تلك الليلة ما أن خرج توفيق من الديكور إلى كالوسه الخاص حتى ارتمى على الكرسى واضعاً رأسه بين يديه، ثم انفجر فى بكاء حراق اهتز منه بدنه والكرسى وكل من أحاطوه، وأضفى على الكواليس كلها بؤساً وتعاسة!

وعلى الرغم من أنه أرغم الجمهور بعد ذلك على نسيان الهمبكة والاندماج فى ما يقدمه من جديد متميز فإنه لم يستطع نسيان الموقف مطلقاً، وظل بقية عمره يتجنب أى حوار فى أى عمل فنى يرى فيه إمكانية للترخص أو حتى مجرد الشبهة فيه.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة