خيرى شلبى

اغتــــراب النـــــاى

السبت، 06 أغسطس 2011 04:40 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مثل كل أبناء القرى المصرية - فى جيلى على الأقل - غزت موسيقى الغاب طفولتى المبكرة بقوة وعنفوان، فعلى أيدى أجدادنا الفلاحين تم تثقيف البوص، فأقام البوص حضارته الإنسانية الأولى مسطورة بالنغم الصادر عن الناى والسَلاَّمية والكَولة والمزمار والأرغول، كلها آلات موسيقية من البوص المثقف لكنها مختلفة الأشكال والمقامات وأعداد الثقوب، مختلفة كذلك فيما يصدر عنها من نغم، الناى نوَّاح، السلامية مرحة نزقة، الكولة بوَّاحة صريحة، المزمار فرحان مبهج، الأرغول يحرث فى المشاعر بقرارات صوتية عريضة اجتمعت فيها أصداء الطبيعة الفلاحة، من نعير السواقى إلى قهقهة الطنبور إلى خرير الجداول إلى زفيف الريح تعزف على أوراق الشجر لواعج سفر أبدى، إلى شقشقة العصافير وهديل الحمام فى استقبال مواسم الحصاد، غير أن الناى هو سيد هذه العائلة المهيب، هو عنوان حضارة البوص، إنه «نديم كل من فرقه الدهر عن حبيب، وأنغامه قد مزقت ما يغشِّى أبصارنا من حجب»، هكذا يصفه شاعر الصوفية الأكبر وأحد أعظم شعراء الإنسانية الأفذاذ جلال الدين الرومى «604 - 672 هـ» فى مفتتح ديوانه الشهرى «مثنوى» الذى ترجمه عن الفارسية الدكتور محمد عبدالسلام كفافى أوائل النصف الثانى من ستينيات القرن العشرين، ثم أكمل ترجمته الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا.

والكلام عن جلال الدين الرومى يطول ويتفرع، ولكن حسبنا أن نعرف الآن أنه صاحب طريقة صوفية تسمى المولوية، وصوفيته فى رأى الدارسين تختلف عن صوفية أستاذيه فريد الدين العطار ومحيى الدين بن عربى، وحتى عن أستاذه المباشر شمس الدين التبريزى، كانت صوفيته لا تغرق فى الزهد ولا يتعمل على إفناء الذات فى رحاب الذات العلية، بل كانت إيجابية فى الحياة تعمل على إضاءة الروح واستنهاض الهمم والمثل الأخلاقية العليا وتقريب الإنسان من خالقه، مشبعة بالكلمة والفلسفة من ناحية، متلامسة مع الواقع الإنسانى المادى المعاش من ناحية ثانية، وهو أول من توسع فى استخدام الآلات الموسيقية فى حضراته الصوفية، بل كان يجيد العزف على الناى، وقد طلب منه أحد مريديه أن يكتب لهم عملاً شعرياً غنائياً يستعينون بموسيقاه على إذكاء روح الوجد فى الذاكرين من أتباعه المولوية الذين يتميزون بأداء خاص أقرب إلى المسرح الاستعراضى، وفى الوقت نفسه يكون مرجعاً لتعاليم الطريقة المولوية ومبادئ جهادها الروحى، فاستجاب الرومى له، وراح يملى عليه هذه الخماسيات الشعرية التى استغرق تأليفها سنين عددا حتى ملأت ستة مجلدات كبيرة، ومعنى كلمة «مثنوى» أن كل شطرين تجمعهما قافية واحدة، وكان يتم تأليفها وتلحينها وأداؤها فى نفس الجلسة، وحيث كان من المتوقع أن تكون هذه الأشعار غزلا فى الذات الإلهية أو مدحا فى الرسول، صلوات الله عليه، إذا بها تحتوى العديد من حكايات مطولة بعضها من الميثولوجيا الفارسية والعربية وبعضها الآخر من الواقع، لكنها معالجة بفنية عالية تفتح القلوب إلى الله وتقرب السكك إلى صفاء الإيمان، وكانت قصيدة الناى هى المفتتح الذى عبر به عن رؤيته للوجود الإنسانى، وعلاقة الإنسان بالله، ففى رؤيته الفنية تلك أن الإنسان يظل طوال عمره فى حنين إلى أصله الإلهى الذى انحدر منه، والإنسان حتى دون أن يدرى يعبر عن حنينه إلى أصله بما يصدر عنه من إبداع ومن جهاد روحى ومكابدات، وكان النادى هو المعادل الفنى لهذه المكابدات الشريفة.. إن السر فى هذا الشجن المتدفق بحرارة فى صوت الناى هو حنين هذه القصبة من البوص إلى الفرع الذى اقتطعت منه فى منابت الغاب.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة