صلاح عيسى

غدر بالثورة.. وعذاب للثائرين

الأربعاء، 13 يوليو 2011 04:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
منذ أسابيع وأنا أقلب فى كل القنوات التى تعرض الأفلام العربية القديمة، بحثاً عن فيلم «غدر.. وعذاب»، وهو فيلم كتب له القصة والسيناريو والحوار وأنتجه وأخرجه وقام ببطولته عام 1947 النجم الراحل «حسين صدقى»، لكى أعذب نفسى بمشاهدته، عقابا لى، لأنى ربما كنت أول - أو على الأقل واحداً من أوائل الذين ذكروا الناس بـ«قانون الغدر» و«محاكم الغدر».

حدث هذا منذ شهور، عندما كتبت على صفحات «الأهرام» فى 7 أبريل الماضى أعترض على دعوى كانت جيدة آنذاك، يطالب أصحابها بتقديم أقطاب وأزلام النظام السابق إلى محاكم استثنائية تحاكمهم على تهمة إفساد الحياة السياسية وتقضى عليهم بعقوبات السجن ومصادرة الأموال والحرمان من ممارسة الحقوق السياسية، مذكراً الجميع بأن التجربة التاريخية تكشف عن أن هذا النوع من القوانين والمحاكم والاستثنائية، تصدر فى البداية لمحاكمة أقطاب النظام البائد، ثم يستظلها فريق من الثوار لتصفية كل من يختلف معهم، ويعترض على سياستهم أو يمارس حقه فى التعبير عن رأيه، محذراً من السير فى هذا الطريق المحفوف بأشواك الديكتاتورية، الذى بدأته ثورة 23 يوليو 1952، بإنشاء محاكم الغدر ثم محاكم الثورة والشعب والمجالس العسكرية ومحاكم أمن الدولة وأمن الدولة طوارئ ومحكمة القيم، وإصدار قوانين العزل السياسى، التى قادت عشرات الآلاف من الوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين والناصريين إلى السجون والمعتقلات، وحرمانهم من ممارسة حقوقهم السياسية، باعتبارهم من «أعداء الشعب».

وعلى عكس ما قصدت، فقد تلقف أصحاب الدعوى لاستصدار قوانين استثنائية إشارتى إلى «محاكم الغدر» لكى يطالبوا بإحيائها، خاصة بعد أن أفتاهم فقيه قانونى لا أعرفه بأن قانون إنشائها لا يزال قائماً ولم يتم إلغاؤه، وبالتالى فهو «قانون طبيعى» وليس قانونا استثنائيا، وهى محاكم طبيعية وليست استثنائية، وأن كل ما هو مطلوب، هو أن تصدر قرارات بتشكيل محكمة غدر من السلطة المختصة، وأن تحيل نيابة الغدر المتهمين من أقطاب وأزلام النظام السابق.

وبهذا الاكتشاف القانونى الكاذب، استراح ضمير دعاة المحاكم الاستثنائية، واتسع نطاق المنتمين إلى حزب الغدر بالثورة، واندفعوا عبر الشاشات والصفحات يطالبون بصدور قرارات بتشكيل هذا النوع من المحاكم، الذى ليس استثنائياً، وتطبيق قانون الغدر الذى هو طبيعى مائة فى المائة كالمياه المعدنية، وانضم إلى هذا الحزب رجال قانون وقضاة جالسون ونشطاء فى منظمات حقوق الإنسان، وبعض ثوار هذا الزمان، من دون أن يتنبهوا إلى أنهم يكررون الخطأ الذى وقع فيه أسلافهم وينسون الحكمة التى تقول «الثورة تأكل أبناءها كالقطط».

أما الحقيقة فهى أن قانون إنشاء محاكم الغدر منذ البداية قانون استثنائى، لأنه صدر بعد إلغاء دستور 1923 وبمرسوم قانون عن مجلس قيادة الثورة، حين كان يتولى السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولم يعرض على أى مجلس تشريعى لإقراره، بعد عودة الحياة النيابية فى أعقاب دستور 1956، ثم إنه ابتدع ظاهرة المحاكم المختلطة، التى تتشكل من قضاة مدنيين وضباط من القوات المسلحة، فهو ينص على أن تتشكل المحكمة برئاسة مستشار من محكمة النقض وعضوية مستشارين من محكمة استئناف القاهرة، يعينهم وزير العدل، وأربعة ضباط عظام لا تقل رتبة كل منهم عن «صاغ» - أى رائد - يعينهم القائد العام للقوات المسلحة، ومعنى هذا أن الأغلبية فيها للعسكر - غير المنتمين حتى للقضاء العسكرى - وليس للمدنيين.. وكانت تلك هى البداية التى أدت فيما بعد إلى النص فى قوانين أخرى، منها قانون الطوارئ وقانون محاكم أمن الدولة، على إضافة ضباط إلى المحاكم، التى تحاكم المدنيين، وهى التى قادت إلى تقديم المدنيين إلى محاكم عسكرية عام 1966.

والقول بأن قانون محاكم الغدر لا يزال قائماً قول مشكوك فيه، فضلاً عن أن قيامه لا يعنى أنه ليس قانونا استثنائياً، يتوجب علينا أن نطالب بإلغائه وليس بتفعيله إذ كيف يكون قائماً على الرغم من أن «محكمة الغدر» لم تعمل سوى شهور قليلة اكتشف بعدها مجلس قيادة الثورة أن قانونها وإجراءاتها لا تكفى لردع أقطاب العهد البائد، فأصدر قانون إنشاء محكمة الثورة وأناط بها معظم اختصاصات محكمة الغدر، التى توقفت عن العمل بعد أن نظرت عددا قليلاً من القضايا لا يزيد على خمس أو ست، بينما توالت القوانين، التى تقضى بالعزل السياسى كعقوبة أصلية على فئات بعينها، وبينها كل الذين تولوا الوزارة بين 4 فبراير 1942و22 يوليو 1952 أو كعقوبة تابعة للحكم بالإدانة فى بعض جرائم أمن الدولة، أو كعقوبة جماعية لكل الذين اعتقلوا أو حوكموا أو أدينوا أو طبقت عليهم القوانين الثورية.

ونظرة عابرة إلى قانون الغدر تكشف عن أن معظم الأفعال المؤثمة فيه كانت قائمة قبله أو أدرجت بعده فى مواد قانون العقوبات، ومنها الإضرار بمصلحة البلاد ومخالفة القوانين واستغلال النفوذ والمضاربات غير القانونية فى البورصة والتأثير فى القضاء.. ومن بينها جرائم يصعب إثباتها، كما أنها تدخل فى نطاق الثقافة الاجتماعية للمصريين، مثل الوساطة لتعيين موظف أو الحصول على ميزة له.

والأفعال التى يؤثمها قانون الغدر لا صلة لها بالأفعال التى ينسبها المطالبون بتفعيله إلى أقطاب وأزلام النظام السابق فهو لا يؤثم جريمة تزوير الانخابات أو جريمة العمل على تدهور مكانة مصر فى أفريقيا، أو التسبب فى زيادة عدد مرضى السرطان ولا يعتبرها إفساداً للحياة السياسية.. وهو لا يعاقب أحداً بالسجن، فكل عقوباته أدبية كالحرمان من الوظائف العامة ومن حق الانتخاب والترشيح والحرمان من الانتماء للأحزاب السياسية.. إلخ.

خلاصة الكلام أن الذين يطالبون بإحياء قانون الغدر يبحثون عن سلاح صدئ، لكى يحاربوا به طواحين الهواء فقد انهار النظام السابق، ولم تبق منه سوى أنقاض، ينبغى أن نتركها للقضاء الطبيعى ليرفعها طبقاً لما يقضى به القانون الطبيعى حتى لا نفتح الباب أمام عودة القوانين والمحاكم الاستثنائية فنشاهد مرة أخرى أفلاماً مملة من نوع «غدر وعذاب»، الذى وصفه ناقد كبير أيامها بأنه «غدر بالسينما.. وعذاب للمتفرجين»، كما أن محاكم الغدر ستكون بالقطع غدراً بالثورة وعذاباً للثائرين.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة