"اليوم السابع" ينشر فصلا من رواية "قيس ونيللى" لمحمد ناجى

الخميس، 23 يونيو 2011 09:00 ص
"اليوم السابع" ينشر فصلا من رواية "قيس ونيللى" لمحمد ناجى الروائى محمد ناجى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جاء رضوان قبل نهاية السهرة متأبطا الطبعات المسائية لصحف اليوم التالى. حدَّثهم عن حاملات الطائرات والحشود وتأهّب القواعد الجوية، وأكد لهم:
ـ الضربة وشيكة، ولن تستغرق أكثر من أيام.
راهن اللواء فادى على أن أمريكا لن تخاطر بالدخول فى مغامرة تعرف أن نتائجها كارثية، وقال:
ـ سيتحوّل القتال إلى عمليات مقاومة وحرب عصابات، وتغرق جيوش الإمبراطورية فى الوحل العراقى بعد الأفغانى.

رسم الخرائط بأصبعه فى الهواء، وشرَح بإسهاب، لكنهم لم يتلقوا كلامه باحترام يليق بوجهة نظر خبير عسكرى، بل بدا رضوان وكأنه يسخر من المحارب القديم:
ـ سنرى يا سيادة اللواء.
***
لم يحصل فادى على الرتبة الرفيعة خلال خدمته العسكرية، لكن أصحابه المدنيين أنعموا بها عليه. توقفت ترقياته فى الجيش عند رتبة "عقيد"، وقاد بها إحدى كتائب المشاة فى حرب التحرير. حارب بضراوة فى "ثغرة الدفرسوار"، وفقد أغلب رجاله ومعداته، وفقد أذنه اليمنى وسمْعَها أيضا. خرج بعد الحرب مكللا بنياشين وأوسمة ومعاش عميد متقاعد، لكنه كان حزينا لعاهته، وغير راض عن مسارات الحرب والسلام. حتى الآن يناقش المسألة بحرارة كأنها مطروحة للتصويت.

ما زال يقاوم بخياله فى ثغرة الدفرسوار، ويتصوَّر مسارات أخرى غير تلك التى جرت. أحيانا تدمع عيناه وهو يتوقع الرصاصة الأخيرة فى خنادق خياله.
قال لرفاقه فى ختام السهرة:
ـ لو ضربوا العراق ستنقلب المنطقة، وتسقط أنظمة صديقة للغرب، الناس فى الشوارع نار يغطِّيها الرماد.
***
غطَّى الرماد الجمرة الباقية فى الموقد، فترددت حمرتها بين التوهج والانطفاء. راقبها بكرى وهو يفكر فى أن وجودها وحيدة لابد أن يسلمها إلى الرماد.

فى تلك الليلة أضاف بكرى للوحته الناقصة بعض اللمسات؛ قطرات دم تهمُّ بالاحمرار، لكنها ما تلبث أن تقطر فى قاع اللوحة خائرة خامدة.
***
بعد أيام قليلة شاهد رفاق السمر لقطات "الصدمة والرعب" المتكررة فى الفضائيات؛ القصف العاصف، ومعارك الجنوب، والزحف إلى بغداد. هبّت روائح البارود على خيال فادى وقال لرفاقه:
ـ الثغرة كانت هنا على الأرض، فضّوها بالمفاوضات، لكنها انفتحت فى السياسة، وبعد السياسة الاقتصاد، ثم العقول. الآن رجعت للأرض، ووصلت حتى بغداد، ولا نعرف لأين ستمتد غدا؛ المؤامرة مفتوحة.
انتقده رضوان بشدة، واتهمه بأنه يعيش حالة حصار نفسية، ويفسر الأمور حسب مؤامرة وهمية لا توجد إلا فى رأسه، وسأله باستنكار:
ـ لماذا يتآمرون علينا؟.. فلوسنا فى بنوكهم، وأرضنا تحت أرجلهم، وأكْلُنا من معوناتهم. اسمع منى يا جنرال وحاول أن تفهم، فأنت عسكرى ولا علم لك بأمور السياسة.

حاول أن يشرح المسألة باعتبارها تحريرا للعراق وللمنطقة كلها من الدكتاتورية، لكن فادى وقف له:
ـ وما علاقتك أنت بالديمقراطية؟!.. أنت وأمثالك دعائم للدكتاتورية فى كل زمان ومكان؛ تنتقدها فى جلساتنا، وتدافع عنها على الملأ. ألا تستمع لما تقوله بلسانك فى الفضائيات؟!
ـ عيبك يا جنرال أنك تسمع بأذن واحدة، ويفوتك نصف الكلام.
اشتعل النقاش، وتأهَّب نصيف للمشاركة بطريقته الخاصة. هو يميل دائما إلى مشاغبة رضوان، ويتعمد إرباكه بحنكة قاض سابق. يفسح له الطريق حتى يتوه فى الكلام ويبدأ اللخبطة، وعندئذ ينقض عليه بتعليق حاسم يجعل منه أضحوكة الجلسة. يهرب بعد ذلك من أى نقاش، ويحوّل المسألة إلى هزار:
ـ القَفْشة حكمت.
فى انسحابه السريع حصافة رجل لا يريد أن يتورط فى اشتباك مع رضوان. عنده أيضا ما يثير السخرية، ورضوان بالذات يعرف عنه كل شىء، ولسانه لا يرحم.
***
عمل نصيف بعد اعتزاله القضاء مستشار ظل لرجل أعمال. كان محتاجا لدخل إضافى يحافظ به على مظهره بعد المعاش، ولم تكن لديه إمكانيات لفتح مكتب للمحاماة فى منطقة تليق بمكانته، ولا لديه استعداد للعمل مساعدا فى مكتب محام أقل منه سنا ومقاما، قَبِل وظيفة الظل ذات المرتب السخىّ المستور.
لم يرهقه الرجل بأعمال روتينية، كان لديه فريق من المحامين يتابعون قضاياه وعقوده ومشاكل قروضه. اكتفى منه باستشارات قانونية دقيقة فى أمور تخص نزاعات الملكية على أراضى الدولة، والثغرات الموجودة فى بعض القوانين والإجراءات القضائية.
استفاد أيضا بعلاقاته.
لم يكن له مكتب بالشركة أساسا، ولم يوقِّع ورقة طوال عمله. ظلت علاقتهما أشبه بصداقة وجلسات دردشة، وغالبا فى بيت نصيف.
هرب الرجل إلى الخارج بثروته وديونه الضخمة للبنوك، لكن نصيف لم يتضرر من هروبه؛ ما زال مرتبه يصله بانتظام، والعلاقة مستمرّة بالتليفون.
***
فى تلك الليلة تدخّل نصيف بطريقة مراوغة لإسكات فادى وتوريط رضوان، ضرب أكثر من عصفور بكلامه وهو يقول للجنرال:
ـ صحيح؛ أنت لا دخل لك بالسياسة، ولا صلة لك بالعسكرية حاليا. أنت الآن مجرد مدير أمن فى شركة "ماكياج"، جنرال على أربعة أو خمسة موظفين وسكرتيرة. اترك لنا فرصة لنستفيد من تحليلات سيادة النائب، فهو أكثرنا اطلاعا وفهما للأبعاد السياسية للموضوع.
فهم فادى الغَمْزة فبلع الكلام وسكت.
تكلم رضوان طويلا، واستدرجه نصيف بأسئلة مقتضبة تكشف تناقضاته وتزيد ارتباكه، ثم قال له فى النهاية:
ـ فهمْنا من كلامك أنك تعتبر الديموقراطية هى المسألة الأهم فى المنطقة. الآن البس "دماغك الحزبى"؛ واشرح لنا رؤيتك الرسمية لمسألة الديموقراطية فى بلدنا.
وقع رضوان فى الشرك، وانهالت التعليقات الضاحكة:
ـ البسْ "الدماغ الحزبى"..
ـ الكرافتة طبعا..
ـ هأ.. هأ.. هأ..
ــ بدلة الرقص.. هشّك بشّك..
ـ هأ.. هأ.. هأ..
رجعت نيللى من سهرة الملهى وقت الهأهأة. كانت مبسوطة بعد أن شربت رشفات ويسكى وبيرة من بقايا الزبائن. هأهأت معهم وسألت أبو شنب:
ـ على أى شئ يضحكون يا فارس أحلامى؟
ـ كلام الباشوات كلّه حكم.
لم تفهم شيئا من كلامه، فاتكأت بيديها على كتفيه وهى واقفة، وأدارت دفّة الضحك فى الاتجاه الذى تعرفه:
. لا أعترف بباشا غيرك، فمتى تخطفنى بالموتوسيكل ونهرب بالفلوس؟
أدار الجوزة نحوها وحيّاها:
ـ مساء العنب.
قبلت التحية.
كانت أول مرّة.
لم يستطع بكرى قبل ذلك أن يستدرج نيللى إلى المخدرات. حاول معها كثيرا؛ لكى يضعها فى مزاج تصبح معه أكثر فهما وتقبلا لحالاته، لكنها كانت تحذر دائما، وتدرك أنها يجب ألا تفقد انتباهها أبدا حتى لا تضيع. تشخط وتردّه:
ـ ابعد عنى يا بيكو، أنا مسطولة وحدى؛ الهم ساطلنى.
فى تلك الليلة؛ قبلت دعوة أبو شنب؛ شفطت وكحّت وهأهأت:
ـ مساء العنب يا فارس أحلامى.
حياّها الباشوات بحرارة:
ـ مساء العنب يا نيللى باشا، حلاوتك.
***
تكرّرت اللقطات وتشابهت طوال الأيام التالية، لكن مشهد إسقاط تمثال صدّام كان نقلة مهمة فى مسار الفُرجة.
ثبّت جندى العلم الأمريكى على قاعدة التمثال المخلوع، لكن فتى عراقيا تسلّق القاعدة بهدوء، أنزل العلمَ الأمريكى ثم أعاد مكانه راية بلاده. ظل العلم العراقى يرفرف وسط المشهد الفاضح فى ساحة الفردوس، والفتى يبتسم بحسم.
تنفّس فادى دخانه بعزم حتى اشتعلت الجمرة، وقال وهو ينفث حلقاته فى وجه رضوان:
ـ الآن ستبدأ الحرب الحقيقية، حرب المدن والعصابات.
ـ بل ستبدأ مسيرة الديموقراطية، ليس فى العراق وحده، بل فى المنطقة كلِّها.
ـ سنرى.
ـ ولماذا ننتظر حتى نرى يا جنرال الماكياج؟.. نحن نرى الآن بالفعل عراقيين يرحِّبون بدخول قوات التحالف بغداد، ويرقصون طربا مع إسقاط التمثال.
ـ ولماذا تتجاهل ما فعله الفتى العراقى؟.. ولماذا تنسى تلك المرأة التى فقدت كل أسرتها، وسمعناها فى الفضائيات وهى تتوعد صارخة: "إذا مات كل رجالنا فسيحاربهم نخيل العراق"؟
لم تفلح تحيات أبو شنب المتكررة فى تخفيف حدَّة النقاش، فحاول بكرى أن يفعل ذلك مترنّما بشعر من مسرحية "قيس وليلى":
ـ "ما الذى أضحك منى الظبيات العامرية..
ألأنِّى أنا شيعى وليلى أموية؟
اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية".
أشار رضوان للكلام الخارج من فم بكرى، ونبَّه فادى:
ـ اسمع وافهم ما يقول؛ هذا بعد آخر فى الموضوع؛ الشيعة والسنّة.
فهمت نيللى كلام بكرى على نحو يخصّها، وقدّرت أنه يحاول العودة لحديثه التهكّمى عن علاقتها بقيس، فحايلته:
ـ لا تضايقنى الليلة يا بيكو، أنا تعبانة، والمغص يكاد يقتلنى.
وتوجّعت:
ـ آه يا بطنى.
تحسّس بطنها وسألها:
ـ أين تشعرين بالمغص بالظبط؟
ـ تحت.
ظل يزحف بيده إلى تحت حتى قارب منطقة الوجع، فنفرت من يده وشتمته:
ـ ارفع يدك يا معفِّن، أنا عيّانه.
***
ظهرت مؤخرة نيللى فى إعلانات التلفزيون عن الفيلم. فطارت بفرحتها من تليفون إلى تليفون، وقالت لقيس:
ـ فرصة لتعزمنى على السينما.
يمكننا أن نخمّن أن إحساس قيس بالفيلم كان مختلفا، ربما كان أقرب إلى الضجر، لكن نيللى فسّرت فتوره بالغيرة، وقالت لبكرى:
ـ خشيت أن يقف فى الصالة ويزعق فى الجمهور: "غمّضوا عيونكم". ولمّا خرجنا كان الأولاد يشيرون إلىَّ ويقولون لبعضهم: "هذه هى"، وهو يشدّنى ويبعد.
هناك الكثير مما يُقلق قيس بالنسبة لنيللى، لكن قلقه أكبر على أبيه الضائع فى أحداث العراق، غطّى على أسئلته المعلقة، وشوّش أحيانا على أحلامه بتثبيت وضعه فى أرشيف الصحيفة. كان يبدو أغلب الوقت مرهقا وفاقدا للبهجة، عدا تلك اللحظات التى يحتشد فيها لمقابلة مدير التحرير ليسلّمه تقاريره الأرشيفية. يبتسم ويطأطئ بتواضع فى انتظار كلمة شكر.
لاحظت نيللى فتورة فعاتبته ونصحته:
ـ لا تنشغل بموضوع أبيك بأكثر من طاقتك، فليس بوسعك أن تفعل شيئا لأجله. ركّز تفكيرك الآن فى شغلك، وأحبّنى أيضا بجد. قل لى مرة: "هاتى بوسة"، أو خذنى فى قارب وانكش شعرى. شدّنى إليك، ولا تتركنى تائهة وحدى. ثم لا تنس أننى فنانة وأحبّ الدلع.
تحمّس لفكرة القارب، وعزمها يوم شم النسيم، لكنه لا لمس خدّها ولا نكش شعرها، وإنما أسند رأسه على كتفها وحدّثها عن همومه الجديدة. أخبرها أن رفيقيه فى المسكن يتأهبان للرحيل، وعليه أن يتحمل كل الإيجار بعدهما. ديمترى يعدّ أوراقه للهجرة إلى كندا، وحسين ينتظر وظيفة محصّل كهرباء فى بلده. قبلوا توظيفه بعد أن تنازل عن مؤهله العالى، ورضى بالتعيين بشهادة الثانوية. الآن يستكمل الأوراق.
رأت نيللى أن رحيل الرفيقين فرصة لينفرد قيس بالمسكن ويستقرّ فيه، لكنه أحبطها حين أخبرها أن مسكنة ليس شقّة، وإنما غرفة بدون مرافق.
وزادها إيضاحا:
ـ هى خرابة فوق سطح البيت، وعقد إيجارها سنوى، ولا يُجدد إلا برغبة ورثة العقار.
ملّت حديث الهموم، فقالت له:
ـ ارفع رأسك عن كتفى؛ ثقيل.
على رصيف الكورنيش؛ عزَمَها على قرطاس ترمس، وسقاها من قلّة، وهى بخلت عليه حتى بالشكر:
ـ نشرب المياه بصدأ المواسير، وناس غيرنا تشرب عصير المياه.
وكان كلامها فى ختام النزهة النيلية القصيرة:
ـ أسرع، الحق شغلك.
وذكّرته بما فاته:
ـ خسارة فيك البوسة. باى باى يا فقرى باشا.
***
كان المشهد مختلفا عند بكرى؛ بيض ملوّن وملانة وبيرة وحشيش وفسيخ. أكلت نيللى وتلذذت بالزفارة، وشربت ودخّنت وهأهأت:
ـ مساء العنب.
شوّشت مؤخرة نيللى الإعلانية على الفضائيات السياسية، وعلى أى حديث لم يعجبها بين بكرى ورفاقه. هم أيضا كانوا راغبين فى تغيير الجو.
كانت تطارد إعلان الفيلم على المحطّات الفنية، وتنبّههم وهى تشير إلى لقطات التايور الأزرق:
. هذه أنا؛ مولد نجمة.
وعاتبتهم:
ـ ألم يكن من الواجب أن تحتفلوا بى بهذه المناسبة.
كانت فرصة لهم للابتعاد عن ضجيج الفضائيات.
احتفلوا بها.
ألبسوها الطرطور الأحمر العالى، وأجلسوها على الكرسى المذهّب الوحيد، وأبو شنب بين قدميها بالجوزة. كانوا يدورون حولهما وهم يهزّون طراطيرهم، وبكرى ينشد أمامهم بصوت كهنوتى جليل:
ـ لك المجد يا عروس الربيع؛ لمن تهبين نفسك الليلة؟
كانت الأيادى تمتدّ إليها أحيانا، وهى تفلت بمهارة، وتستدير بخفة ضبّاط السينما، وتصوّب إصبعها الى وجوههم وتطلق الرصاص:
ـ كل واحد فى مكانه، طاخ.. طاخ..
استمرت فى دور المقاومة، حتى داخت ووقعت فى حِجْر أبو شنب.
ضحكوا، وهى أيضا هأهأت وتعلَّقت برقبته:
ـ فتى أحلامى..!
***
انصرف فادى بلا استئذان؛ رمى طرطوره، وتبخّر من الجلسة دون أن يحسّ أحد بانسحابه.
***
فى ذلك الأوان كان الملائكة ينفخون الزهور بألوان الربيع، ويوقظون الرغبات الكامنة فى الجذور. وكانت الأرض تنبض بحنان، وتنفثُ رطوبتها فى شعيرات الطمى.
نشر نسيم الليل بشارة من عطر الزهور البازغة، فتنفسها بكرى بعمق، ثم هزَّ طرطوره ورتّل:
ـ لمن تهبين نفسك الليلة يا عروس الربيع؟
اعتبر رضوان سقوط عروس الربيع المتكرر فى حجر أبو شنب اختيارا حاسما، وقال:
ـ هى اختارته، وهو الآن باشا مثلنا، يعدّ فلوسه بمئات الآلاف، ولابد أن نترك له فرصة.
كان كلامه أقرب لمزْحة، لكن هأهأة نصيف استفزتّه؛ فعاند وجادل ولبس لهم الكرافتة:
ـ لنكن ديموقراطيين؛ المسألة تخصّ البنت، فلنتركها تعبّر عن رأيها.
هزّت نيللى رأسها هزّات لا معنى لها، لكنهم اعتبروها كافية.
واشترط أبو شنب:
ـ لابد أن أكتب ورقة حتى تكون الخلوة شرعية؛ سأعطيها خمسين جنيها مهرا، ولها خمسون أخرى مؤخر صداق، تأخذها مع يمين الطلاق وتقطيع الورقة.
***
رفض أبو شنب الزفّة الهزلية التى قادها رضوان خلفه، وقال بأدب حاسم وهو يحمل البنت على ساعديه إلى غرفتها،:
ـ لا مؤاخذة يا باشوات؛ أنتم أسيادى، لكن آخركم فى هذا المقام عتبة الباب.
***
رغم الورقة الشرعية كان ما جرى مخجلا للجميع. ربما كان وجود أبو شنب مصدر ذلك الإحساس، ولو اختلفت الأدوار لاختلف الأمر.
تساند رضوان على نصيف فى الأسانسير وسأله:
ـ ماذا جرى بالضبط يا سيادة المستشار؟
أدار نصيف وجهه للمرآة الكالحة، وحاول أن يتفادى الكلام. كان يفكّر فى أنهم أخطأوا بحرق الورقة، فربّما احتاجوها لمواجهة أبو شنب إذا تطوّر الأمر إلى نتائج محرجة. وعندما كرر رضوان السؤال جاوبه دون أن ينظر إليه:
ـ أنت أعلمُنا بما جرى يا باشا. دائما أنت أعلمُنا بكل الأمور.
ثم التفت وواجهه:
ـ وأنت من قاد الزفّة.
***
تناثرت الطراطير على الأرض وقد التوت حلوقها تحت دهس الأقدام. عبر بكرى بينها بحذر من يتفادى الأفاعى، ثم وقف على عتبة نيللى، وسألها بلسان ثقيل:
ـ اصحى وحدّثينى؛ ماذا جرى بالضبط؟
ـ لم يحدث شىء ، كلّه تمثيل.
ولما ألحّ عليها شتمته ورأسها يتطوّح على المخدّة:
ـ أليس هذا ما كنت تريد يا معفّن؟!
***
حاول بكرى الاتصال بأبو شنب طويلا، لكن رنَّات الموبايل اختلطت بضجيج الموتوسيكل. كان يطير من شارع إلى شارع، ودخان الماسورة الخلفية يغطّيه بعتمة، بينما انحنت قرون الأشجار مع نسيم الربيع لتطل على المشهد، ونبضت ميكرفونات المدينة بإنشاد خفيض:
إن كان ما سطّرتمو
قدرٌ فما هى حيلتى
وقد ارتضيت قضاءكم
وبه اصطنعت مشيئتى
إنّى أطعتكمو فما
وزرى؛ أذنبى طاعتى؟!
كانت الأرض تتأهب لدورة جديدة تحت الشمس، وأبو شنب يتقدّم الموكب بالموتوسيكل.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة