عماد صبحى

صدمة رضوان

الخميس، 09 يونيو 2011 10:51 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لن يكون للحديث عن الحد الأدنى للأجور فى مصر أى معنى إذا قل عن 3 آلاف جنيه شهريا، وإذا أردنا أن نعيد لهذا الشعب كرامته وكبريائه وآدميته ونرفع عن الفقراء - الذين يمثلون 40% من الشعب وفق أحدث الإحصائيات - ذل الفاقة والسؤال والحرمان والمعاناة، ليس من المنطقى أن نتحدث عن هيكل جديد للرواتب لايزيد حده الأدنى عن 700 جنيه.

انخفاض الأجور كان فى النظام البائد البوابة السحرية لاستشراء الرشوة، وكانت هذه الآفة هى الإبن الشرعى لسياسات حكومات عهد مبارك المتتابعة، حتى صارت سلوكا مقننا، كان النظام السابق يعلم أن الرواتب الهزيلة لاتكفى أسبوعا، وكانت الرشوة قانونا وسلوكا يوميا، كان النظام البائد يعلم أنها أحد أسباب منع الانفجارالشعبى، وأنها متنفس للكادحين والمحرومين والمطحونين أصحاب الرواتب الهزيلة، واستشرت ظاهرة "بيزنس الهوا"، بحيث تجد من يحاصرك وأنت تركن سيارتك بكلمات من نوعية "عجلة شمال ياباشا"، وأنت عائد من السفر بمن يقول لك "حمد الله على السلامه ياباشا"، وبمن يجبرك على تأدية خدمة لست فى حاجة اليها، ولا تجد أمامك مفرا سوى أن " تقب" بالمعلوم، وإلا ستكون شخصا جاهلا بـ "البروتوكول"، أو ستتعرض لنظرة تحمل معان منها أنك عديم الذوق والإحساس، فإما الدفع وإما الجرح.

لقد صمت وصمد وانتظر الفقراء من الشعب المصرى منذ انتفاضة 17 و18 يناير1977 على موجات الغلاء، وارتفاع الأسعارالمتواصلة بلا توقف فى أواخر عهد السادات، وطوال عهد مبارك الذى كان مطمئنا إلى أن الشعب قد تبلد، ولن ينتفض أويثور أبدا طالما أن "التهليب" وتفتيح الدماغ أصبح سلوكا يوميا، وأن أحدا من الذين يتقاضون رواتب شهرية مائة ومائتى جنيه لم يمت من الجوع، فالكل كان "ضارب إيده فى جيب التانى".

وفى أعلى رأس النظام السابق انتشرت الظاهرة للركب، أيضا وحصل الكثيرون على هدايا وفيللات وقصور كنوع من الرشوة دون أن يعلموا أن هذا السلوك يعاقب عليه القانون، فالقابعون خلف أسوار سجن طره من الوزراء والمسئولين لم يكن يتخيل أحد منهم أن يأتى يوم ليحاكم فيه بتهمة إهدار المال العام، ولا المرتشون تخيلوا أن الشعب سيثور ويخضعهم للمحاكمة بتهمة تلقيهم رشوة.

لقد أصابتنى صدمة مما أعلنه د.سمير رضوان وزير المالية عن تحديد الحد الأدنى للأجور ب700 جنيه، وسبب الصدمة أن الرجل كان قد أعلن بعد قيام الثورة أن الحد الأدنى سيكون 1200 جنيه، ثم عاد ليعلن أن الرقم سيكون 850 جنيها، وربما بعد مرور عدة أيام سينخفض الرقم ليصل إلى 500 جنيه، وفى مسألة الحد الأقصى للرواتب حدثت تسريبات نشرتها بعض الصحف، مفادها أنه سيكون 27 ألفا، الغريب أن كل أطروحات خبراء الاقتصاد، بل إن د. رضوان نفسه أكد بعد قيام الثورة أن لائحة الأجور الجديدة ستضيق الفارق بين أدنى وأعلى راتب فى الحكومة إلى 10 أضعاف، لكن هذه اللائحة تعنى أن الفارق سيكون 40 ضعفا، وليس 10 أضعاف، وهو ما يكرس سياسة المحسوبية، ويقضى على قيم العدالة الإجتماعية التى تمثل أحد الأهداف الرئيسية للثورة، وتعود بمصر إلى مرحلة ما قبل 25 يناير عندما اتسعت الفوارق بين طبقات المجتمع.

الرواتب فى مصر فى حاجة إلى عدالة التوزيع، وقد حان الوقت لتقليص الفجوة الهائلة وغير المنطقية بين رواتب العمال الكادحين الذين يتعرضون لنيران الشمس الحارقة ويتصببون عرقا وهم يؤدون أعمالا شاقة، وبين المديرين والمستشارين إياهم وقيادات الصف الثانى والثالث من أصحاب الياقات والمكاتب الفخمة والمكيفة فى المؤسسات الحكومية، لا يجوز أن يتقاضى رئيس أومدير مؤسسة حكومية أونوابه رواتبا شهرية وبدلات تصل فى مجموعها إلى 2 مليون جنيه، وعلى هؤلاء أن يتخذوا فى هذه المرحلة زمام المبادرة بالتنازل عن أجزاء من رواتبهم الفلكية للدولة أو للموظفين الكادحين، فهم ليسوا أفضل فى عطائهم وإخلاصهم من أقل موظف أو ساعى، بل ربما يكون الدور الذى يؤديه ذلك الموظف أو الساعى الذى لايزيد إجمالى راتبه عن 500 جنيه، أهم وأفيد لمؤسسته ولمصر من مديرها، ثم أن أحدا فى هذه المرحلة الانتقالية الصعبة التى تمر بها مصر يستحق راتبا شهريا بالملايين، مهما كان موقعه، ومهما كانت إمكانياته وعبقريته ومواهبه، ومهما بلغ حجم الدور الذى يؤديه فى عمله، ولا أحد أيضا من العمال البسطاء غير جدير بأن يكون راتبه 3 آلاف جنيه شهريا، فهذا حق الدولة عليه، ولأنها ملتزمة بتوفير السكن والعلاج والخدمات والحياة الآدمية لمواطنيها.

من غير المنطقى أن نتحدث فى مرحلة ما بعد الثورة عن أجور تتناقض فى تداعياتها وآثارها مع المبادىء التى قامت عليها، ولا يمكن للعدالة أن تتحقق فى ظل لائحة أجور تزيد الهوة المادية بين الرؤساء والمرؤوسين، تغدق على الكبار وتحرم الصغار، تزيد الأثرياء ثراء وتزيد المطحونين فقرا.

ولا يمكن تبرير هذا الانخفاض الحاد فى مستوى الحد الأدنى بأن هناك دعما سلعيا للفقراء، فقد أثبتت هذه السياسة فشلها فى النظام السابق، والذى استفاد فيه الأغنياء بنسبة 70% من قيمة الدعم السلعى.

نعم لقد ارتقت الثورة بكثير من القيم والمعتقدات، والطبقة الكادحة التى تلتقيها فى الشوارع والنجوع والقرى والحوارى، وأفرزت رغبة حقيقية لدى الملايين لتغيير سلوكيات كانوا يمارسونها مجبرين قبل 25 يناير 2011، ومنها الرشوة وهم يفعلون ذلك بقناعة ورضاء وحب، ولكن لايجب من الآن فصاعدا أن نطلب من رب أسرة مطلوب منه التزامات شهرية بالآلاف، أن يرتقى بسلوكه إلى مستوى الثورة، ويتوقف عن مد يده، أويفتح درج مكتبه فى الجهة الحكومية التى يعمل بها لتضع له فيها "إكرامية"، أو أن يقول لك "إحنا قاعدين فى بنزينة ياباشا"، أوأن يلمح لك بأن الأولاد ناموا من غير عشاء، فالمواطن الذى لن تكفيه ال700 جنيه سوف يلجأ لعمل إضافى، وإذا لم يجد، سوف يعود تحت ضغط الحاجة إلى امتهان سلوكيات هى فى النهاية نوع من الرشوة، حتى لوأقنع نفسه، أو أقنعه من يعطيها له بأنها "إكرامية" أو"هدية"، وهكذا سيعود هذا السلوك ليستشرى فى سلوكنا اليومى، وتعود ريما لعادتها القديمة قبل الثورة.

هذه الآفة ربما تعرقل توجه المجتمع الدولى لحذف مصر من قائمة الدول الأكثر فسادا، بعد الجهود التى يتم بذلها فى محاربة الفساد وتقديم الفاسدين للعدالة.

الحديث عن 700 جنيه أصابنا بصدمة كبرى، لأن هذا الرقم يعنى وبصريح العبارة عودة آفة الرشوة، والمطلوب إعادة النظر فيه وتقليص الفجوة بين الحدين الأعلى والأدنى، بأن نأخذ من أصحاب الرواتب الفلكية فى كل الجهات الحكومية لتكون من نصيب العمال الكادحين والمعدمين.

إننى أتحدى أى خبير إكتوارى أوجهبذ فى الاقتصاد أن يأتينى بحسبة يثبت فيها أن أى مواطن مصرى يستطيع أن يسير أمور حياته وأن يعيش حياة بها قليل من الكرامة والآدمية بمبلغ شهرى أقل من 3 آلاف جنيه؟








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة