لماذا يعشق الأجانب الصحراء بكل هذا الجنون؟

الخميس، 02 أكتوبر 2008 11:05 م
لماذا يعشق الأجانب الصحراء بكل هذا الجنون؟ المخاطر تهون أمام الجمال المخبوء فى الصحراء المصرية
بقلم سعيد شعيب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هل فكرت مرة وتوكلت علي الله وقررت "تتفسح" في الصحراء
كنت اعتقد أن الصحراء مجرد مسطح لا نهائي من الرمال
فقد تربينا في ظل ثقافة متعصبة تحتقر كل ما هو خارج الوادي الأخضر
وللأسف نحن نندهش من أن هناك مصريين بدو
ووجدت الصحراء عالم سحري مفتوح علي طزاجة وبكارة غير مسبوقة


قال لي صديقي وائل فاروق بحسم مدهش: دي مش صحراء .. دي مزبلة.
كنت أسأله بعد أن تجاوزنا مدينة 6 أكتوبر: لماذا نقطع 700 كيلو متر حتى نشاهد الصحراء وهاهي أمامنا، ولم يكن وائل يقصد بالطبع أن الصحراء تحولت الي مكان للقمامة، ولكن شيئا آخر عرفته وأحسست به فيما بعد، وكان مفتاحا لعالم مشحون بالجمال تستعيد كل ما فقدته من نفسك في هذا الزحام المتوحش.

وأثناء هذه التجربة التي امتدت أياما عرفت لماذا يعشق الأجانب الصحراء.. فالأوربيون منهم لا يعرفونها، لأنها غير موجودة في بلادهم،فهي عالم جديد تماما عليهم، لا يرونه سوى في الأفلام وفي الملصقات وفى بعض اللوحات الفنية القديمة. هي بالنسبة لهم عالم من البكارة والجمال . وإذا أضفت عليه أساطير سحر الشرق السائدة عندهم، تصبح الصحراء أمرا من الصعب مقاومته،حتى إن بعضهم يأتي إليها من المطار مباشرة، لا يزور الأهرامات أو شواطئ شرم الشيخ أو غيرها، بل يأتي إلى مصر فقط من أجلها، إنه إدمان لجمال من نوع غير مسبوق. والأجانب لديهم قدرة فذة على الاستمتاع بالجمال والحياة، وهذا بالضبط ما يفتقده معظم المصريين، رغم أن الصحراء هي الرقعة الأكبر من مساحة بلادهم.

عندما سألت ماريا الأمريكية ما الفرق بين هذه الصحراء والصحراء الأمريكية؟
قالت لا يمكنني شرح الفرق، أقصد لا يمكنني التعبير عنه بالكلام ،فالصحراء هنا فيها شيء غامض ، سحري ، إنه عالم يمكن أن تلخصه بأنه إلهي.

كنت أنطلق من التصور السائد بأن الصحراء هي مجرد مسطح لا نهائي من الرمال لا شئ فيه، "يعني معقوله فيه رمله تختلف عن غيرها؟" لأ طبعا، كما أنني مثل معظم –إن لم يكن كل- المصريين تربوا علي أن النهر هو كل الحياة، أو بمعني أدق أن النهر هو الحياة وما عداه هو العدم والموت. وان الصحراء هي شئ لا نحبه ولا نريد حتى أن نعرفه ونتمنى أن نتخلص منه. فالدولة المركزية في مصر التي تجاوز عمرها سبعة آلاف عام لا تهتم بأي شئ خارج الوادي الأخضر، بل وتحتقر ما هو خارجه، وتتعالى عليه، حتى إننا نندهش من أن هناك مصريين يرتدون الجلباب والعقال في سيناء وكثيرا ما نسأل أنفسنا: هل هم مصريون مثلنا؟
وأظن أننا نندهش أيضا من أن هناك بدوا مصريين، يعيشون في الصحراء أو علي أطرافها، يعني جنسيتهم مصرية أبا عن جد وليسوا من أصول عربية، أي قادمين من الجزيرة العربية أو غيرها. وكرس الإعلام بوحشية، اقصد الصحافة والتليفزيون، هذا المفهوم العجيب وهو أن مصر هي فقط الشريط الأخضر الضيق المحشور فيه ملايين من الناس، بل ويزداد تعصب الدولة المركزية ببيروقراطيتها المخيفة حتى إنها لا تري من هو خارج القاهرة والمدن الكبرى، فما بالك بمن يعيشون في الصحراء ومن يعيشون علي أطرافها.

لأنني إبن هذه الثقافة الضيقة والمتعصبة ،فقد تصورت أن هذه الرحلة لن تسفر عن شيء أكثر من جلسات سمر وشوية هدوء في صحراء ممتدة وبس، وقلت لنفسي: "أهي برضه فرصة للتغيير".
ولكن بمجرد دخولنا بسيارات الجيب الي عمق الصحراء علي بعد حوالي 70 كيلومتر من مدينة الفرافرة شعرت أن هناك شيئا مختلفا، عالما لا نهائيا، مفتوحا علي طزاجة وبكارة ،وعندما وصلنا في الليل إلي الصحراء البيضاء، وجدت تكوينات من الحجر الجيري علي امتداد البصر ، تكوينات بيضاء في ظلمة حانية، ظلمة تكشف ولا تخفي، تماثيل غارقة في أبدية هذا الكون الرحيب، يتجدد شكلها طوال الوقت حسب ضوء القمر، وضوء ملايين النجوم المعلقة في سماء رصينة ومبهجة، سماء تستطيع أن تلمسها بيدك وهواء تشعر به وهو يدخل صدرك .. وملمس بارد لرمال ناعمة تتناثر علي مساحات لانهائية من الحجر الأبيض ينفذ برقة وعذوبة الي القدمين ، والي الجسم.
أشعر أنني جزء من كل هذا، لست غريبا عنه ولا هو غريب عني، إن مكاني الطبيعي هو هنا وليس في أي مكان آخر، فكل ما هو موجود في هذا الاتساع الأبدي كان ينتظرني وحدي .. أنا وحدي، ليمنحني كل هذا السحر والجمال غير المتصور.

في الصباح الباكر كانت شمس ناعمة تغمر هذا البراح بمعني جديد، ويمنح هذه التماثيل الجيرية البديعة التي نحتتها الطبيعة بعفوية بهاء جديدا، يجعلها مختلفة كليا عما كانت عليه في الليل ،فرحت لأن الله جل علاه منحني جسما، عينين حتى أري وأنفا حتى أشم وجلدا حتى أحس بالحرارة والبرودة و..و.. و.. ، أسمع صوت الهواء يدخل صدري .. أسمع كل هذا الصمت الوفير، أتذوقه، أشعر بطعمه في لساني، يغمر روحي ويعيد خلقي من جديد.

في طريقنا إلي "الغرود" كما يسميها البدو توقفنا عند "البيت الأبيض" كما يسميه الأجانب وهو تبة مرتفعة بيضاء تسمح للواقفين عليها برؤية أبعد نقطة في الصحراء ومنها انطلقنا الي الغرود، وهي رمال ناعمة جدا وتوجد فيها عدة جبال شاهقة ومتجاورة من الرمال، وكان المشهد بديعا حتى إننا صعدنا فوق أعلي نقطة وتركنا أنفسنا نتزحلق من علي الجبل وكأنه مصنوع من الثلج.. في الليل مشيت كثيرا وعرفت معني البكارة، فالصحراء كما يقول صديقي وائل تمنح نفسها لك وتشعرك أنك أول من خطى فوقها وأول من شم هواءها.

مشيت بعيدا عن المجموعة مسافة طويلة ونمت علي ظهري في كل هذا الخلاء، وفوقي نجوم متلألئة بالضياء.شعرت أن هناك الكثير والكثير من الصخب والزحام يترك روحي تدريجيا.. أسترخي وأغفو وأشعر براحة نادرة من كل هذه الضوضاء التي كانت تشوش علي روحي.

عندما عدت إلي المجموعة وجدت "مبروك محمد علي" يؤدي أغاني بدوية مع مزماره الذي يسمونه هنا الأرغول، موسيقي مختلفة تماما عما سمعته طوال حياتي واندهشت ،وأنا الذي عملت في الصحافة الفنية سنوات طويلة، من أنني لا أعرف عنها شيئا، وحكي لي مبروك أن الشيخ صديق أبو عبعاب الذي غني له بعض أعماله، كان مقرئا وسافر الي السعودية حتى يتزوج الفتاة التي عشقها، ولكنها تزوجت رجلا ثريا، فغير طريقه وأصبح مغنيا ينشد أغاني الحب البدوية لحبيبته التي ضاعت منه إلي الأبد،والرجل –اقصد صديق- صوته جميل وكلماته مؤثرة جدا والموسيقي التي يغني عليها مختلفة تماما، لا تشبه إلا نفسها، وقد غناها مبروك بتفان وإخلاص مذهل، وعزف علي الأرغول عزفا لم أسمع مثله من قبل. كما رقص أحمد عابد رقصات بدوية بديعة دفعتنا جميعا الي مشاركته وخاصة الأجانب الذين يعرفون كيف يستمتعون بالحياة، في حين أننا لا نعرف ذلك وكأن لدينا ميلا فطريا للغم والعكننة.

غني مبروك وفرقته أغنية أخرى يسميها البدو "المجرودة" وهي تشبه الموال، ولكن لها إيقاع سريع ومختلف وثابت وتتناول العديد من الموضوعات منها الحبيبة وضيق ذات اليد وغني المشاعر التي لا تقدر بمال ، وفلسطين والعراق والشيشان وغيرها.

عرفت من مبروك أن هناك شركات كاسيت متخصصة في الغناء البدوي وتوجد لها مقرات في العتبة والسيدة زينب وعرفت أسماء كثيرة لمطربين من البدو ، وعرفت أيضا أن قصر الثقافة في الفرافرة يقتصر دوره فقط علي أنه مكان للبروفات التي يقوم بها فريق الغناء الذي يشارك فيه مبروك والذي يقدم أغانيه في الأفراح، وتعاطفت مع رأي احمد عابد –الذي نظم هذه الرحلة بمحبة واقتدار- في رفضه الحاسم لدخول آلة الأورج للفريق ووجهة نظره أنهم – أي أعضاء الفريق- لديهم آلات تخصهم ،ولا يستطيع العزف عليها بنفس الكفاءة غيرهم، فلماذا يأتون بآلات موسيقية لا يعرفونها وتشوش علي الأرغول والمزمار؟! وكان واضحا أن مبروك يميل إلي هذا الرأي وأكد أن أهالي الفرافرة أنفسهم لا يريدون سماع هذه الآلات الغريبة من فريقهم، فهم يسمعونها من وسائل الإعلام المختلفة.

هذا التمسك بما يخصهم كان واضحا أيضا في بيت الحاج عابد المبني من الرمال والطين، واندهشت لأن هناك مساحة كبيرة مفتوحة علي السماء مباشرة، ولكن أحمد عابدين أكد لي أنها تجعل التهوية ممتازة صيفا وشتاء، فالأمطار نادرة هنا، كما أن بناء البيت بالرمل والتراب مناسب جدا لطبيعة الجو عندهم، فالحوائط في الشتاء تمنح الدفء وفي الصيف تجعل الجو لطيفا وهو ما يجعلهم يرفضون تماما البناء بالطوب والأسمنت الذي انتشر إلي حد ما في مدينتهم الصغيرة الفرافرة.

تحدث أحمد عابد بمرارة مؤكدا أن الحكومة نسيتهم، فهناك الكثير من الخدمات التي يجب زيادة الاهتمام بها ومنها ماكينات الكهرباء التي إذا تعطلت يأتون بقطع غيارها من محافظة المنيا وهو ما يعني انقطاعها يوما أو اثنين، ناهيك عن عدم وجود مياه في القرى، والتي يعتمد أهلها علي مياه الآبار ، التى تزيد فيها نسبة الحديد. بالإضافة الي أن المواصلات من والي القاهرة عبارة عن أتوبيس واحد فقط يمر علي الفرافرة قادما من الواحات الداخلة، وبالصدفة يمكن أن تجد مكانا خاليا.

أضف الي ذلك أن المدينة تحتاج الي اهتمام سياحي خاص، بمعني توفير الخدمات اللازمة للسياح من المصريين والأجانب، مثل المطاعم والكافيتريات والفنادق وغيرها ، ولا أعرف لماذا لم يفكر المجلس المحلي للمدينة في أن يجعل لها طابعا خاصا في شكل البيوت وألوانها، كما لا أعرف لماذا لا يفكرون في تنشيط السياحة الداخلية للمصريين حتى يعرفوا بلدهم وبأسعار معقولة.

لم تكن بهجة هذه الرحلة الاستثنائية في فكاك الروح من الاعتقال في المدن والزحام الذي نعيش فيه، ولكنني فهمت وأحسست لماذا معظم الأنبياء يأتون من الجبال والصحاري، فهنا تستيقظ بسهولة كل الحواس بما فيها البصيرة، بصيرة أن تري نفسك وتري عمق أعماق هذا الكون البديع. وكما قال لي صديقي وائل –صاحب الفضل في هذه الرحلة- أن الهدوء والتأمل يأتيك فاتحا ذراعيه ليأخذك إلي نفسك. كما أنني تعلمت أن المصدر الأساسي للتعالي علي الآخر هو الجهل به، وعرفت أن احمد عابد ومن معه كانوا يخدموننا بحب، ليس بسبب المال وحده، لأن هذا جزء من ثقافة البدو، حيث كرم الضيافة شئ أساسي، فلم نكن بالنسبة لهم مجرد سبوبة، ومن هنا كان أحمد يصر علي أن نري مناطق معينة في الصحراء،كما أن ثقافة البدو هي التي تجعلهم يصرون علي تنظيف الصحراء، ففي كل مرة ننتقل من مكان الي آخر أجدهم يجمعون من الأرض المناديل الورقية وزجاجات المياه الفارغة ولا يتركون شيئا وراءهم يفسد هذا الجمال، فهل سمعتم من قبل عن ناس مهتمين كل هذا الاهتمام بنظافة صحراء شاسعة؟ لا أظن.
ولا أظن أيضا أننا نعرف مصر بلدنا، ومن المخجل أن الأجانب يعرفونها أكثر منا ويستمتعون بها، فلديهم قدرة فذة علي الاستمتاع بالحياة، حتى رجال الدين، فهذه الرحلة كان فيها عدد من القساوسة الأجانب وكانوا يرقصون ويغنون ويضحكون وأيضا يتعبدون ويتأملون في هذا الجمال الممتد بلا نهاية ، ومنهم الأب خوسيه الأسباني الذي يعتبر أن الوجود العربي في اسبانيا في الأندلس وغيرها أصبح جزءا من تاريخ إسبانيا ولم يعد ينظر له باعتباره احتلالا استيطانيا، وإن كنت أنا نفسي أري أنه احتلال بغض النظر عن نتائجه الإيجابية في الفلسفة والعلوم وغيرها.

كما أفرحتني الكراهية العميقة التي يكنها القس منلاب لجورج بوش وعصابته وأسعدني أكثر هذا الاهتمام والحب من جانب الباحثة الايطالية ماريا لمصر وللعرب ولأدبهم وثقافتهم، وقد كانت رسالتها للماجستير عن الروائي الكبير صنع الله ابرهيم.
إنني أدعو كل المصريين أن يذهبوا إلي الصحراء حتى يعرفوا بلدهم ويعرفوا أنفسهم.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة