عمار على حسن يكتب: من حكايات الحب الأول

السبت، 26 مارس 2011 09:07 ص
عمار على حسن يكتب: من حكايات الحب الأول عمار على حسن

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
( 1 )
غادرتنى فى ميعة الصبا فغادرتها، وأنا أهيم بها عشقا. لم تقل الوداع، وحجزنى الكبرياء. اليوم كلما برق طيفها فى خاطرى اهتز جسدى، فتتساقط الذكريات على كفى. ذات مرة التقطت إحداها وقلت لها: ألا تزالين حية يا ذكرى. فابتسمت وقالت: روحى معلقة بين السماء والأرض، لن تنصرف أبدا إلا إذا جاد الزمان عليك باللقاء.
( 2 )
زارنى طيفها فى المنام، فقلت لها معاتبا: تآكلت روحى من عذاب الانتظار. فابتسمت وقالت فى أسى: أما أنا فأموت كل لحظة من ترويض النسيان.
( 3 )
مثلت أمام الطبيب وصدرى يفور ألما. استلقيت على ظهرى واستقبلت يده النابضة، وسماعته الباردة. أصغى قليلا ثم قال متحيرا: قلبك يدق بعنف كأنه خيل ترمح. فقلت له مبتسما: يريد أن يلحق بطيفها الذى يمرق كل ليلة من أمام شرفتى.

( 4 )
من وراء التيلسكوب الدقيق راح يمعن النظر فى مقلتى اليسرى، ثم أخذنى إلى لوحة موزعة عليها دوائر متلاحقة الحجم، بكل منها فتحة ضيقة من اتجاه، يختلف من واحدة إلى أخرى، وأعادنى مرة ثانية إلى التيلسكوب. وبعد دقيقة واحدة، مشى إلى مكتبه فمشيت خلفه، جلس فجلست أمامه. تمتم وقال فى أسى:
ـ الماء الأبيض زحف بشدة على المقلة اليسرى.
فعرفت لماذا تغيم الرؤية، وتتناثر الأشياء، وتنشطر الوجوه، ويرتد البصر حسيرا، فقلت له ساخرا:
ـ عجبا، لبياض يزحف، فيحل السواد.
فابتسم فى فتور، وقال:
ـ العين اليمنى مرشحة للداء نفسه.
فوقفت من الفزع، لكنه أشار إلى المقعد مبتسما، وقال:
ـ الطب تقدم، ولا داعٍ للقلق.
فقلت له وخاطرى يحلق فى فراغات لا نهاية لها:
ـ أخاف أن يأتى اليوم المنتظر، فأسمعها ولا أراها.
( 5 )
بعد عشرين عاما من افتراقنا قابلت صديقتها مصادفة بين الزحام. صافحتها وثقل لسانى كعهده القديم فلم أسألها عن حبيبتى الضائعة. نظرت إلى مليّا وقرأت السؤال فى عينيى، فقالت مبتسمة: انقطعت أخبارها. فارتعش جسدى لقولها، لكنى تماسكت، وقفز إلى ذهنى وجه حبيبها الذى هجرها فسألتها فى خجل: كيف أحوالك أنت؟ زفرت متألمة ولم تجب، وهمت منصرفة فى بطء وهامتها منكسة وكأنها تحصى خطواتها. فلما صارت بيننا عشرون خطوة استدارت وقالت: حين أقابلك مصادفة بعد عشرين عاما أخرى، ربما تكون الإجابة قد اكتملت.
( 6 )
هزنى الشوق إلى اليوم الذى رأيتها فيه للمرة الأولى، فدفعنى إلى الحديقة التى شهدت اللقاء. سافر الزمن وليس بوسع أحد أن يعيده، وتبدلت معالم المكان ولا حيلة فى إرجاعه إلى عهده القديم. لكن التراب الذى كان حذاؤها يترك فيه أثرا فيحتضنه حذائى وأنا أسير وراءها حتى تغيب، كان لا يزال على حاله. مشيت عليه متمهلا، حتى هدنى التعب، فجلست على حجر مستطيل ملقى على جانب الممشى، وأطرقت فى صمت مطبق. لم تمر سوى دقائق حتى سمعت نقرا يقترب منى، يشبه نقر حذائها، فرفعت هامتى فإذا بفتاة تمشى الهوينى، وفتى يدوس آثارها ولا يحيد عنها أبدا.
( 7 )
ذات عصر والشمس تسكب نورها الذابل على هامات البنايات الشاهقة، انشقت الأرض عن فتاة كأنها هى، فلم أدر إن كنت فى أيامى هذه أم فى أيامها تلك. وقلت أقطع الشك باليقين، فقمت إليها وكانت تكاد أن تنضم إلى لفيف من أصدقائها وصديقاتها، وناديتها باسم حبيبتى، فتوقفت ثم استدارت وقالت: لا يوجد بيننا هذا الاسم، فابتسمت وقلت لها: ولن تحل فى هذا المدينة من تشبهها أبدا، حتى يكور الله الأرض ويطوى السماء.
( 8 )
رن الهاتف ذات صباح، فرفعت السماعة فجاءنى من بعيد صوتها الذى لم أسمعه منذ عشرين سنة، فصرخت فى فرح باسمها، فقالت صاحبة الصوت: نعم أنا. تهللت أساريرى لأنى أخيرا وجدتها، فسألتها فى لهفة: من أى مكان تتحدثين؟ فضحكت وقالت: من داخل نفسك التى لم أفارقها.
( 9 )
رفعت وجهى إلى المرآة لأمشط شعرى. وحين دقفت النظر فى عينى، وجدتها تجلس هناك متربعة فى القيعان البعيدة، وهى تبتسم، وتشير إلى أنفى وتقول: أنا ضحية الكبرياء.
( 10 )
ذات مساء، كنت أقلب فى أوراقى القديمة، فوجدت قصاصة صغيرة، أطرافها متآكلة، لكن قلبها، الذى لا يزال متماسكا، يحتضن حروف اسمها. وأجهدت رأسى كى أتذكر اللحظة التى كتبته فيها دون جدوى. وقلت ربما حدث هذا وأنا شارد الذهن من تصاريف الهوى. لكنى قطعت كل الظنون حين أفردت الورقة تماما، وكتبت تحت الاسم التاريخ المطبوع أمامى على الجريدة التى اشتريتها وأنا عائد من المقهى، ورحت أمعن النظر فى الأرقام التى تراصت أمامى، وقلت لنفسى متكئا على الحروف: هيهات أن يغلبنى النسيان.
( 11 )
كلما صادفت واحدة تحمل اسمها شعرت نحوها بامتنان عجيب، وألقيت رأسى فى بحر الذكريات. وحتى حين تقع عينى على مثل الاسم مطبوعا فى الجرائد والكتب وكشوف المرتبات وجداول الانتخابات تسرى فى عروقى دفقة من غبطة وحيرة، تكاد لها عيناى أن تستسلما فى إغفاءة، لكن بريق عينيها يتوهج بخاطرى، فيغطى كل الأسماء.
( 12 )
فى ميدان فسيح يغمره نور العصر، ويهز النسيم جنباته العامرة بأشجار منسقة، رأيت امرأة بدينة زحف الزمن على وجهها فترك فى نضارته خيوطا غائرة قليلا، ولما تراءت أمامى تماما، حلت برأسى ظنون ولاحت ذكريات، واهتز قلبي، فسرت فى عروقى دفقات متواصلة أخذتنى إلى دنيا جميلة هربت من بين يدى قبل سنين. اقتربت منها، فاتسع الظن حتى كاد لسانى أن ينعقد من الدهشة، وهتف داخلى هاتف: هى .. هى. وهممت أن أسألها وهى تمضى من دون أن ترانى، لكنها كانت قد ابتعدت خطوات عنى، ثم ذابت فى الزحام، فحمدت الله أنها اختفت، وأغمضت عينى فتهادت لى صورة حبيبتى فى الزمان الأول، بوجهها الناضر وجسمها الممشوق، فأمسكتها بخيالى ومضيت، لا ألوى على شىء، قابضا على صورتها القديمة إلى الأبد.

( 13 )
قابلنى بعد فراق طويل. راح يتفرس فى ملامحى ثم ابتسم وقال: أيام العشق نحل جسمك حتى اعتقدنا أنك ستذوب وتذروك الريح. ونظرت إلى نفسى وقلت له ضاحكا: لا يغرنك امتلاء بدنى، فهذه شحوم غافلتني، وسكنت تحت جلدى فى لحظات التأسى الطويلة، ويمكنها أن تتبخر فجأة لو أطل وجهها الرائع من جديد.
(14)
مضى الليل فى سهاد، ولسعنى البرد فاستيقظت نشيطا. ارتديت ملابسى على عجل وانبعثت فى غبش الفجر مستسلما لرذاذ راح يتساقط على مهل. حين غمرنى النور جلست على مقهى فى جانب الميدان. ترامت أمامى أجساد تسعى فى البكور. ثقلت رأسى من متابعة الأقدام التى تنهب الأرض فى كل اتجاه، فرميتها على الطاولة. وفى غمرة السبات رأيتها واقفة أمامى تمسك فى يدها صينية فضية عليها أكواب تشف عصائر مختلفة ألوانها. أقتربت منى وقالت فى لطف:
ـ ماذا تشرب؟
فملأت عينى من حسنها الوضاح وقلت باسما:
ـ شربات عرسنا المنتظر.
فاحتقن وجهها فجأة وقالت فى أسى:
ـ تذوقه غيرك، ولك شراب الروح الذى لا ينفد.
وخزنى قولها فانتفضت منتبها، فوجدت النادل أمامى يبتسم، ويسألنى فى هدوء:
ـ ماذا تشرب؟
فهززت رأسى، وقلت له:
ـ كأس حنظل على فراقها الأبدى.
(15 )
سمعت ذات ليلة شيخا صوفيا يقطر الورع من عينيه يقول لمريديه: من فارقناه فى الدنيا لاقيناه فى الآخرة. وسأله أحدهم وهو يتوه فى كلامه: حتى لو كانت امرأة عشقناها فى الزمان الأول. فأجابه على الفور: لم أقصد سوى هذا. فخرجت من المسجد وأنا أتمنى ألا يطلع على النهار.
( 16)
تخيلت فجأة أنها رحلت، فضربتنى الفجيعة، ورحت أجرى ما وسعنى بحثا عن جنازتها. فى قدمى شوك، وفى عينى نار، وقلبى ينزف تحت خطواتي. وفى لهفتى سألت رجلا يعبر الطريق: ألم تصادف جنازة تمر من هنا؟ فتفرس فى وجهى طويلا، والدهشة تكسو ملامحه وقال: كيف عدت إلى الدنيا، لقد شيعناك قبل أيام.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة