إبراهيم داوود يكتب: الجو العام

الجمعة، 21 يناير 2011 04:59 م
إبراهيم داوود يكتب: الجو العام إبراهيم داوود

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تستطيع أن تذهب إلى "توفيق" فى أى وقت. وبإمكانك اصطحاب من تريد، بشرط أن يخضع للقوانين التى يدير بها منزله، والتى يعرفها الجميع، فهو مثلاً لا يحب أن يقترب أحد من المطبخ أو من أوراقه الخاصة أو شرائط الكاسيت أو "الفوطة" الخضراء المعلقة على ظهر باب الحمام، وألا تستخدم "الصابونة" الخاصة به، لأنك ستجد تحت المرآة ورقة تشير إلى أخرى "جديدة دائما" مكتوب عليها بخط فارسى جميل: "للضيوف"، كل ما عليك أن تجلس فى المكان الذى اختاره لك ولا تقاطعه فى الكلام.. معظم الذين يذهبون إليه يعرفون بعضهم منذ سنوات طويلة، واختصروا مساحات كبيرة من الكلام بينهم.. يتخاصمون كثيراً، ويقاطع بعضهم المكان فترات طويلة ولكنه يعود، "أحمد" مثلاً لم يذهب إلى توفيق منذ 1991، آخر يناير، كان يعيش معه بعد عودته من العراق، وطرده "شر طردة"، وظلا متخاصمين ويشتمان بعضهما فى الدوائر، ولكنه ذهب إليه يوم جمعة، فى يناير 2006، فى العاشرة مساءً، نقر على الباب بإصبعه ثلاث نقرات. وعندما فتح الباب، دخل أحمد مسرعاً دون أن يلتفت للجميلة التى فتحت له، اختار مكاناً استراتيجياً بجوار مقعد السلطان، وألقى على الجالسين فى المكان السلام.. السلام الذى ترميه على أصدقائك الذين تركتهم قبل خمس ساعات وعدت. قال له توفيق وهو يضع له خمس ملاعق سكر فى الشاى" خمسة وعشرين سنة يا مفترى؟!"، خمس دقائق على الأقل لم يتحدث أو يتحرك أحد، إحساس غامض خيم على المكان، كل واحد له طريقته فى الاختفاء فى مثل هذه اللحظات، توفيق لم يجلس على كرسى السلطان الذى يسقى الجماهير من عليه، و بدأ الحضور يشعلون سجائر مثل الهواة، وهمدت النار فى الموقد أحمد قطع الصمت بسؤاله لتوفيق "انت نجدت الأنتريه امتى؟" لم يكن ينتظر إجابة. وأضاف وهو يضع يده فى جيبه، "معايا حاجة حلوة"، وأخرج من جيبه ربع أوقية حشيش ووضعها أمامه، وهمس فى أذن توفيق – لا تعرف لماذا؟ "وخصوصاً أنه لا يوجد أحد غريب" – "بقيت باشرب الشاى تلات معالق وأربعة من عشرة.. "وبعدين" خليتهم ربع قرن إزاى؟" وجلس السلطان واشتغل الضرب، ولم يحدث كلام فى أى موضوع، وانصرف الجميع، وجلس توفيق وأحمد فى مكانين بالغرفة، إذا دخل أحد عليهما لن يصدق أن الجالسين يعرفان بعضهما، يستمعان إلى شريط كاسيت لمحمد عبد المطلب.. الوحيد الذى ينصتان إليه.. إذا كان بينهما كلام.

الكل يعلم أنهما على خلاف، دفع كل واحد منهما إلى استخدام أحط الطرق لاغتيال الآخر معنوياً، لا أحد يعرف السبب، ولم يتدخل أحد، ولم تتوقف الحرب بينهما لمدة خمس سنوات، إلى أن هاتفهما الملك وليم اسحق وشتمهما وأمرهما بالجلوس معا، وتصفية الخلاف بدون وسطاء، وهذا ما حدث، تقابلاً أمام مكتبة مدبولى فى ميدان سليمان باشا يوم 4 يناير 1994، الثامنة مساء، وقفا مع الحاج محمد الذى كان سعيداً لأنهما معا، وشربا قهوتين "على الواقف"، وتحدثا معا كلاماً بارداً، ولم ينظر أى منهما فى عين الآخر، هما صديقان منذ الستينيات، وعملا معا فى السياسة، وسجنا فى السبعينيات معا، عصام أصبح مهما فى عمله، كمدير أبحاث فى أحد البنوك الوطنية، وهو رجل أنيق للغاية، يدخن السيجار، قليل الكلام، جاد، ولا يسمح لأحد بالتجاوز معه، ويهابه الجرسونات، ويكون عنيفا مع الذين يعتبرهم يعملون مع النظام، كانت حدته محببة فى معظم الأحيان، لأنه يقوم "بمنتجة" الناس اللزجة بسهولة، وليس مستعدا للجلوس مع شخص فاسد، ولا يسمح لأحد باغتياب شخص غير موجود، يحب الشعر ويترجمه عن الفرنسية التى يجيدها، ويدافع عن السرياليين رغم خصومته القديمة مع التروتسكيين، ومن أشد المدافعين عن القومية المصرية، ويعتبر نفسه – رغم صغر سنه – من أبناء ثورة 1919، ومع هذا يحب جمال عبد الناصر، تزوج مرتين، أنجب فتاة من الأولى وولدين من الثانية، وهو من أسرة ميسورة أصلا، ويؤمن بالاشتراكية فى دفع الحساب آخر الليل، ولا يثق فى الذين يدخنون الحشيش، ولكنه لا ينكر أن رائحته جميلة ومحببة، وعندما يبتسم يصبح جميلا مثل الأطفال، هو شخص حزين بشكل عام، ولكنه لا يشكو ولا يقول لماذا؟، ويحب عمارات وسط البلد ويعرف أسرارها ويخاف عليها بصدق، صديقه ناجى لا يقل نبلا عنه، ولكنه أكثر رحابة، ويلتمس الأعذار للآخرين، ومسرف فى محبته للحياة، لم يتزوج ولا يريد، ويعيش فى شقة واسعة وجميلة فى شارع التحرير بالدقى، مقتنياته من الفن التشكيلى تكفى معرضاً كبيراً ذا قيمة، هو معنى بالأشياء القديمة، ويمتلك مكتبة موسيقية فريدة، وله علاقات واسعة بصناع الغناء فى مصر، ويشجع الأهلى بجنون، ويحب الأكل جداً، وطباخ ماهر، ويعزم أصدقاءه – بين الحين والآخر – ويتفنن فى الطبخ، ويكون سعيداً جداً وهو يشاهدهم يأكلون باستمتاع، هو محام كبير، ناجح ومتحقق، يحب مهنته ويكسب منها، ولم يكن أحد يصدق أن علاقته بعصام قد تصل إلى ما وصلت إليه، تركا الحاج مدبولى ومشيا بدون هدف فى الشوارع، كان الجو بارداً، وكانت الأمطار التى توقفت فى العاشرة قد أخلت المدينة من الناس، قرب منتصف الليل دخلا الجريون، جلسا فى الحديقة، إلى الطاولة القريبة من الباب الخلفى، جلسا أمام بعضهما، وبدأت البيرة تنهال عليهما، كان الرواد قليلين فى تلك الليلة، ثلاث أو أربع طاولات على الأكثر، بعد ساعة بدأ يسمع صوت صفعات هناك، صفعات أربكت الجميع، يقوم الواحد منهما من على كرسييه ويصفع صديقه صفعة قوية مسموعة، ثم يجلس مكانه، بعد قليل يقوم الآخر برد الصفعة بالقوة نفسها ثم يجلس مكانه، والحوار بينهما لا ينتهى، يتحدثان وهما مبتسمان، إلى أن تعود الحضور – الذى كان متوترا – على الإيقاع حتى مطلع الفجر. مات عصام فى يوليو فى العام نفسه ولم يكن مريضاً، ولحق به صديقه بعد شهرين.

يعتبر فهمى شقة جزيرة بدران خزانة عمره، يذهب إليها بمفرده كل أحد، يفتح شبابيكها ويتأكد من صلاحية أشرطة الكاسيت، ويشاهد ألبوم الصور ويفرد جسده قليلاً، الشقة فى الدور الرابع، لم تدخلها زوجته الصيدلانية منذ بناء بيت الهرم سنة 1980، فهمى عاش فى الإمارات عشر سنوات مدرساً للموسيقى، لم يفتح غرفة "الضرب" منذ 1985، عام عودته النهائية، بعد عملية القلب المفتوح التى أجريت له وتوقفه الإجبارى عن التدخين، لم يشعر بالسعادة وهو بعيد عن شبرا، بيت الهرم فى شارع متفرع من خاتم المرسلين، مكون من ثلاثة طوابق، يعيش فى أول بلكونة هو وزوجته التى تهتم بالصيدلية الموجودة بالدور الأرضى أكثر منه، هو يخاف منها، وزاد خوفه بعد زواج ابنته فيولا وسفرها إلى كندا مع زوجها (الذى يعمل سمسارا للعقارات مع شقيقها مايكل هناك)، نيفين تفكر هى الأخرى فى الهجرة، وتقول له أنه هو العائق الوحيد، لأنه لا يصلح للحياة، هناك، مايكل يتصل به فى شقة شبرا كل أحد، لأن الكلام الذى بينهما لا ينبغى أن تعرفه الأم، يشعر فهمى أنه أخطأ فى حق نفسه وفى حق مصر عندما سافر وتخلى عن الموسيقى التى بداخله من أجل المال، وأنه كان ينبغى أن يواصل التلحين، فى الهرم يقولون له يا دكتور، لأنه يقف فى الصيدلية ويصرف الدواء، ويلجأ إليه الناس فى الطوارئ ويعطيهم دواء ناجعا، فى يناير 1993 سافرت نيفين إلى كندا لأن فيولا على وشك الولادة، ولأول مرة يكتشف فهمى حريته، لم يعد ينزل الصيدلية بالبدلة والكرافت حسب أوامر زوجته، وبدأ يستقبل الزبائن بالبيجامة، وعاد تدريجياً للتدخين، عاد فى وقت شهدت فيه مصر أزمة فى الحشيش لم تشهدها من قبل، هو يتابع أخباره من بعض الأشقياء الذين كانوا يبتذونه ليأخذوا الترامادول والتوسيفان نظير حمايتهم له، أخذ موقفا حادا من المخدر ذى الرائحة الكريهة الذى لم يستوعبه والذى حل محل كيفه القديم، فى أحد الآحاد، ذهب كعادته إلى جزيرة بدران وقرر أن يتخلص من الأشياء التى لا لزوم لها، بينها بدلتان قديمتان لا يحتمل الزمن وجودهما، وبعض الأحذية والكتب، وقرر تصليح آلة العود المعلقة على الحائط، وفتح غرفة الضرب التى لم تفتح منذ قديم الأزل، الغرفة ضيقة، عبارة عن جلسة أرضية تسع خمسة أشخاص غير السلطان الذى له مكان مميز، وثلاث "جوز" نحاس، وأكثر من خمسين حجر ماركة ياسين "المترشة"، وهى من الأحجار التى يتم "تشعير" المعسل فيها ولا تصلح إلا للحشيش، لم تكن الإدارة فى حاجة إلا الأشياء بسيطة مثل "الغاب" والمصفاة وتلميع "الجوز" والتهوية ونقل الكاسيت إلى الداخل، وعندما بانت الشقة قرر ألا يذهب إلى الهرم، زار قريبه المعلم فوزى فى روض الفرج، واشترى جبنا وتونة وفاكهة، واصطحب وهو عائد "بتاع روبابيكيا"، الرجل وقف فى الخارج، ودخل فهمى إلى غرفة النوم، أخذ البدلتين وفردهما على السرير، وقف يتأملهما فى البداية، ثم جلس إلى جوارهما، أمسك الشماعتين الخشبيتين الجميلتين، و"استخسرهما" فى الرجل الذى يقف إلى الباب، أخذ يقلب البدلتين ويتأكد من أن جيوبهما فارغة، فعل ذلك بشكل تلقائى، ولم يصدق نفسه وهو يخرج قطعة حشيش لا تقل عن نصف أوقية منسية منذ السبعينيات، تحدث إليها بفرح "أنا فاكرك.. إنت فاكرانى.. إنتى كنتى فين؟"، الرجل فى الخارج بدأ يضغط على جرس الباب بعصبية ملحوظة، فهمى خرج إليه سعيداً وخفيفاً وأعطاه البدلتين وقال له "دول هدية"، وأغلق الباب فى وجهه بعنف، قرر – وهو يفتحها ويشمها – قرر أن يبحث عن أصدقاء الماضى لاستعادة الماضى، وجهز كل شيء، ودرب نفسه من جديد، ونسى الصيدلية، وظل لمدة ثلاثة أيام يتصل ولم يعثر على أحد، ذهب إلى بولاق أبو العلا يسأل عن الشيخ سلامة صديقه الكفيف صاحب الصوت الجميل، قيل له أنه مات منذ خمس سنوات، ذهب إلى مقاهى الآلاتية ولم يجد الوجوه التى كان يعرفها، وفى النهاية دخل إلى بار ستلا فى شارع سليمان باشا وجلس يشرب بيرة... ويبكى.

مجتزأ من كتاب قصصى جديد يصدر عن دار ميرت








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة