"انتفاضة حمار" قصة قصيرة لمحمد فهيم

الأربعاء، 05 يناير 2011 03:11 م
"انتفاضة حمار" قصة قصيرة لمحمد فهيم حمار

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

محمد فهيم

إنه صوتُ البومة يسبقه لونها الأسود، ومنقارها المدبب وكأنه أحد نصال الموت، يصم أذنى أشعره وأحسه، فيتملكُنى الخوف وأوقن أن مصاباً أليماً سوف يلم بى، يالسوء يومى حين ألاقيها، إنها تنادينى "أيها الحمار الغبى أنت الغبى ولا غبى سواك"، ها هى قد طارت بعيداً الحمدلله، وها هى حمامتى الصديقة الصدوقة التى طالما شكوت لها حالى قد أقبلت، صباح الخير يا صديتقى الجميلة، صباح الخير أيها الحمار الطيب، كيف حالك؟ نحمد الله على كل حال ولا نشكوه على مكروه، قالت: الصبر جميل وجزاؤه وفير، إن كنت جائعاً يا صديقى سوف أحضر لك بمنقارى بعض الحب، وإن كنت عطشاناً فسوف آتيك ببعض الماء فى فمى، قلت لها: إنى جائع عطشان والآلام تغطى جسدى، ولكنى أحلم أن أطير فى السماء بلا قيود، وأتخلص مما أنا فيه من قهر وذل، قالت الحمامة: لا يا صديقى لقد خلقنا الله وكل منا ميسر لما خلق له، فاصبر لعل الفرج قريب، وهمت أن تطير قلت لها: إلى أين تذهبين؟ قالت: أسعى على قوت يومى وعيالى، ثم طارت واختفت.

يا للهول عاد صوت البومة من جديد، إنه يغطى الأرض ويملأ السماء، إنها تنادينى ثانية، وتقول: أيها الحمار الغبى تريد أن تطير مثل صديقتك الحمامة، ولا تريد أن تكون مثلى. فقلت لها: الحمامة جميلة وصوتها رقيق، أما أنت فصوتك يقتلنى ويهز قلبى ومشاعرى، ولونك يصيبنى بالضيق. فقالت لى: لم لا نكون أصدقاء كالحمامة. فقلت لها: لا يمكن، فقالت: سوف أقدم لك خبرتى وتجربتى كعربون صداقة، كى تتخلص من قيودك وتصبح من الأحرار مثلنا، فقلت فى لهفة المحروم: كيف؟ فقالت: إنهم يصفونك بالغبى لأنك لا تستعمل عقلك جرب أن تستعمله مرة واحدة. ثم طارت بعيداً وصوتها مازال يغطى المكان، وكلماتها صمت أذنى وسيطرت على عقلى.

شعرت بصوت نعل صاحبى يجره من بعيد، فتسمعه الجيران فيقوموا مسرعين لصلاة الصبح، قبل أن تصحو الشمس وترسل أشعتها فى الأفق، يشكرون الله لأن جارهم الغير عزيز لم يستبدل نعله إلى اليوم، ومنذ ثلاثين عاما وهو يقلقهم فى نفس الميعاد، ولا يجدون عناءً فى إيقاظ عيالهم المتكاسلين عن الذهاب إلى مدارسهم فى برد الشتاء، همت بالوقوف، ولكنى سقطت بعدما زلفت قدماى المتجمدة من شدة ما لاقيته فى ليلتى من برد خارج البيت، بينما تنعم البقرة والجاموسة بدفء الحظيرة، كررت محاولة الوقوف فنجحت بصعوبة، ونظرت خلفى نظرة المتوجس المترقب للحوادث، المنتظر وقوع الكارثة، إنه هو صاحبى اللدود، فارتعدت فرائسى، واهتزت أردافى، وخارت قواى، وسقطت أذنى إلى الأمام بعدما كان يعلوهما الشموخ، وأردت أن أنهق لكنى تراجعت بسرعة، وتذكرت أن كل تنهيقه سوف يتبعها لهيب سوط، فسكتُ وكتمتُ رغبتى التى تعودت على دفنها منذ عشرة سنوات، وقلت فى نفسى: قد يأتى يوم يذهب فيه غليظ القلب بغير رجعة، وعندها أُقيم احتفالاً، ولكن هيهات! فقد كانت أمى تحلم بهذا اليوم، ولم يتح لها حتى ماتت تحت لسعات سياطه، فأوصتنى قبل أن تتركنى لمصيرى، ألا أبوح أو أشتكى، وأن أصم السمع وأُخرس اللسان، حتى لا ألقى جزاءها.

جذبنى غليظُ القلب سليطُ اللسان من لجامى، فازداد خوفى أضعافاً وارتعش جسدى وتلعثمت خُطواتى، وترددت أن أجرى فتلسعنى سياطه، أو أن أقف فيركلنى بقدمه، تلك الركلة التى تعودتُ عليها، وصارت جروحها لا تبرأُ أبدا. وضعنى فى أغلالى المعتادة، لأجر عربتهُ الحديدية ثقيلة الوزن بطيئة الحركة ذات العجلات المتهالكة، ثم ركب غليظ القلب ومعه شياطينه الصغار، فزاد الثقل أضعافاً ولن أستطيع جر العربة، وأخاف أن تلهبنى سياطه، وتتورم منها قدماى وينزف المتبقى من دمى ليغطى جروحى، فعزمتُ ألا يضربنى اليوم، وجمعت ما تبقى لدىّ من قوة، وجذبت العربة وسرت بسرعة، بينما هو يعجب لما يراه، ويتساءل: من أين جاءتنى تلك القوة؟ بينما لم أطعم منذ البارحة شىء، وكأنه يرانى لأول مرة، وهو لا يعلم أنها ستكون هذه هى المرة الأخيرة التى تلمسنى سياطه، قررت أن أستخدم عقلى، الذى يتخذونه مثالا للغباء، وسوء التصرف، وأنقذ نفسى وجسدى من الألم، وسرت تجاه الحقل، وسمعته وأولاده يسخرون منى، ووجدتهم يتصارعون على خطف السوط من أبيهم، يلهبون به جسدى كى أجرى أكثر وأكثر، والسوط يطلب منهم الرحمة يشكوهم إلى الله، بعدما فقد تماسكه، وكاد أن يبلى من كثرة ما شق جلدى وقطع لحمى وشرب من دمى، وصارت رائحته من رائحتى، فقد تلاصقنا أكثر مما افترقنا، فهو يرثى لحالى ولكن لا حيلة له، فتحملت كالعادة وجريت قدر طاقتى حتى ارتطمت قدماى بصخرة حاولت تجاوزها، لكنها سقطت تحت العجلات، فتوقفت العربة فزاد ضرب السياط على ظهرى، واستعان الصغار ببواقى الأشجار يعاونون أبيهم فى قهرى وذلى ومهانتى، ولم يفكر واحد منهم أن ينزل ليزيل الصخرة، بل زاد الضرب، واستجمعت قواى من جديد، وجذبت العربة بشدة فجاوزت المحنة، وبعدها زادت ضربات قلبى، وخرج لسانى ألهث كالكلب الظمآن، وتساقط العرق وكأنه غمامة أسقطت مطرها كالسيل، يغمر الأرض يجرف ذرات الطين أمامه.

ها قد وصلنا إلى الحقل، وتحقق الحلم فى رفع السياط إلى حين، وبقى حلم آخر هو أن أشرب بعض الماء من الفحل، وألتقط بعض الحشائش من الأرض، لكنهم أبوا أن يفكوا عنى قيودى، بل زادوها بعدما ربطونى فى شجرة الكافور، تألمت كثيرا من الجوع، حتى عدل ما يشعر به جسدى من الألم، ها هم قد وضعوا البرسيم فوق العربة فصار كالجبل، فزادت أوجاعى وآلامى فمن يستطيع أن يجر هذا الحمل، وما فوقه من جثث لغلاظ القلوب، فكونى من الشجرة، استخدمت عقلى مرة أخرى، وفكرت فى أن أتخلص مما أنا فيه، سأرفصه وأجرى، نعم هذا هو الحل وليكن ما يكون، فإلى متى أصبر على ظلمه وبطشه وبغيه وأولاده، لابد من نهاية لما أنا فيه، فقررت وعزمت ورفعت أقدامى الخلفية وضربت غليظ القلب فى جسده، وحاولت الفرار ولكن قوتى لم تسعفنى، فأمسك بلجامى وراح يضربنى بكل ما أوتى من قوة، حتى سقطت على الأرض فاقداً الوعى، وضعنى من جديد أسير عريش العربة أجرها فى طريق العودة، ثم ركب هو وأولاده ولكنى لا أقدر، فقد خارت قواى وانهزمت عزيمتى، وتساوت عندى الحياة والموت، فلا خير فى حياة لا راحة فيها، ومن يرضى بالذل استحقه.

فكرت للمرة الثالثة وقررت أن تكون النهاية، استجمعت قوتى من جديد وجررت العربة بكل أثقالها، وسرت إلى جوار الترعة، وكانت الفكرة أن أُلقى بنفسى وبالعربة وما حوت، وبغليظ القلب وأولاده فى مائها، ليكون الخلاص والانتقام فى خطوة واحدة، ها هى قد حانت اللحظة، تشجع أيها الذكى تخلص من غبائك إلى الأبد، وبعدها سيتخلص بنى جلدتك من وصفهم هذا، ويثبت على بنى آدم فقط، نعم هذا المكان مناسب فالمياه كثيرة والعمق بعيد، عدوت تجاه الترعة يسبقنى قرارى لا أبالى بالحوادث، فسقطت إلى قاعها، ولكن شيئا ما لم يكتمل، فقد تعلقت العربة فى جذر شجرة قديم، ونجا الأفاعى ولم يتخلصوا من ذنوبهم، وبقى البرسيم تأكله حيواناتهم المدللة، وبقيت العربة كى تذل حماراً غيرى، وذهبت أنا بلا أمل فى العودة ودون محاولة للنجاة، وبقى الغباء وصفا لى يلازمنى حتى بعد الممات.

عاودنى صوت الغراب من جديد، وسمعت صوت النعل المتهالك، ورأيت السوط فى يد غليظ القلب وخلفه صغاره، وتحسست جسدى فوجدتنى على الأرض، فتذكرت أنى كنت نائما أحلم فنهضت مسرعا لا أعلم إن كنت فرحا سعيداً أم حزينا مكروبا، وبدأت يوماً جديداً، ونسيت حلمى فى الحرية، وقررت ألا أستخدم عقلى مرة ثانية، وعشت ذليلاً كأمى حتى وافتنى المنية.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة