إسلام عزام

إنجاز سينما يوليو أنها تنبأت بالثورة بعد قيامها

الخميس، 24 يوليو 2008 12:01 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
السينما هى السلاح الأكثر استخداما فى تزوير التاريخ، ربما لأنها كانت وسيلة الدعاية الوحيدة التى يمكن أن تصل لقطاعات كبرى من الناس، وبالتالى فهى المثالية للترويج للثورة. فالمدهش حقا أن كل الأفلام التى ناقشت الواقع المصرى السياسى والدور العربى لمصر قبل الثورة، كانت تعرض واقعا يغلى وعلى وشك الانفجار، يؤذن لثورة شعبية وليس انقلابا عسكريا. بمعنى أن السينما المصرية تنبأت بقيام الثورة بعد قيامها بالفعل. والأكثر خطورة أن تلك الأفلام ساهمت فى الخلط بين مفهومى الثورة الشعبية والانقلاب العسكرى لدى أجيال كاملة فيما بعد.

ورغم هذا فلا يمكن إنكار حجم منجز ثورة يوليو الثقافى، وتأثيره فى كافة المجالات ولاسيما السينما. فالثورة رادفت أحلام نهضوية راودت أبناء جيلها، وربما دفع بريقها الأخاذ ونبل أفكارها ببعضهم إلى الإيمان، بأنها سبيل الخلاص الوحيد أمام مصر والمصريين. والأمر ليس قاصرا على الصناعة السينمائية وحدها بل يمتد ليشمل كافة مجالات الحياة. لكن المأزق أن التعبير عن ذلك شهد عملية تزييف للواقع ما قبل الثورة. وكأن الهدف كان محو أى تطور تحقق قبل الثورة، وإعادة تقديمه على أنه منجز خالص للثورة ونتاج حتمى لعدالة أفكارها.

وهذا ما حدث مع أفكار سياسية بعينها كالقومية العربية، التى تم الترسيخ لأنها فكرة ثورية أنجزتها يوليو، وهو ما أكدت عليه سينما ما بعد 52 بقوة فى أفلام، مثل أرض الأبطال للمخرج نيازى مصطفى عام 1953 وعمالقة البحار لنفس المخرج عام 1960 وأرض السلام عام 57 للمخرج كمال الشيخ وغيرها من الأفلام. بل وامتد الأمر لحد المغالطات التى حملتها بعض أفلام السينما والتى ربطت بين القومية كاتجاه سياسى، والنضال ضد الاستعمار والسعى للتحرر، كما حدث فى فيلم المخرج يوسف شاهين جميلة بو حريد، الذى تجاهل كافة الحركات التى تنتمى لاتجاهات سياسية أخرى، وشاركت القوميين فى معركة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسى. بل إن الأمر وصل لحد التعامل مع كل الانتفاضات التى قام بها الشعب المصرى فى تاريخه الحديث على أنها فقط مقدمات لقيام ثورة يوليو. كما حدث مع ثورة 1919 سينمائيا، والتى تم تصويرها فى العديد من الأفلام على أنها كانت ثورة ضد السلطان فؤاد، فى حين أنها كانت ثورة للإصلاح السياسى والدستورى فى مصر، فى ظل حكم السلطان فؤاد، ظهر ذلك واضحا فى أفلام، مثل بين القصرين للمخرج حسن الإمام وسيد درويش للمخرج أحمد بدرخان.

للأسف إننا نبدأ التأريخ لفكر القومية العربية، منذ قيام الثورة متناسين إرهاصات هذه الفكرة التى توّجها توقيع برتوكول الجامعة العربية نهاية عام 1944 وإنشأها فى 1945، ومن قبلها ظهور دعاوى للقومية على يد مفكرين كأبى النصر الفارابى وعبد الرحمن الكواكبى والشيخ طاهر الجزائرى، وهى الدعاوى التى أوجدت بديلا عن الوحدة الدينية الإسلامية، التى انهارت بانهيار الدولة العثمانية.

وهو الأمر الذى وجد صداه فى المجتمع، وبدأت تجلياته فى السينما فى الظهور بعد ذلك بسنوات.. فيلم "فتاة من فلسطين" سنة 1948، إخراج محمود ذو الفقار، وإنتاج عزيزة أمير، وبطولة سعاد محمد، ومحمود ذو الفقار، وصلاح نظمى، يحكى قصة الفتاة الفلسطينية سالمة، والتى هاجرت من بلادها بعد مقتل والدها على يد عصابة عسكرية صهيونية، فترحل الفتاة إلى القاهرة، لتعيش مع خالها، ويرتبط بها ابن خالها.

ومن قبله بأحد عشر عاما كاملة كان فيلم "ليلى بنت الصحراء" الذى أنتجته، وقامت ببطولته بهيجة حافظ وزكى رستم عام 1937، والفيلم كان يدور حول صراع بين العرب والفرس، تكون الغلبة فيه للعرب باتحادهم ومحاربتهم الفرس لاسترداد ابنتهم التى خطفها كسرى، طمعا فى جمالها. الفيلم تم منع عرضه بعد حدوث المصاهرة بين البيت الملكى فى مصر والبيت الإمبراطورى فى إيران، فقد اعتبر أن الفيلم قد يسىء للعلاقات المصرية الإيرانية، لكن بعد سبع سنوات تم السماح بعرضه من جديد، بعد حذف بعض مشاهده وتغيير اسمه "لليلى البدوية".

ليس هذا وحده بل إن جيل الرواد الذين عملوا فى السينما المصرية، منذ نشأتها كان لديهم وعى كافٍ بأهمية الدول العربية كسوق وكشريك فى الصناعة السينمائية، حتى فى الوقت الذى لم تكن فيه تلك الدول قد امتلكت أدوات إنتاج سينمائية بعد. لذلك ظهر الإنتاج العربى المشترك فى الصناعة السينمائية، وكان أول الأفلام عراقى مصرى عام 1946، وحمل عنوان "القاهرة بغداد" والذى شارك فى بطولته من العراق حقى شلبى وعفيفة إسكندر، ومن مصر مديحة يسرى وبشارة واكيم، وكان الإخراج لأحمد بدرخان. وتلاه فى عام 48 فيلم حب، وهو إنتاج تونسى مصرى ومن إخراج التونسى عبد العزيز، ثم جاء فيلم ليلى العامرية وهو إنتاج مصرى سورى، وشارك فى بطولته يحيى شاهين وكوكا وأخرجه نيازى مصطفى.

لقد وصل الأمر إلى أنه فى أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، كان الفيلم المصرى يغطى 60% من تكلفته الإنتاجية، من خلال توزيعه الخارجى فى الدول العربية، -وكانت سوريا ولبنان تمثل 25% من إيرادات الفيلم. وعلى سبيل المثال لا الحصر وصل سعر نسخة فيلم غرام، وانتقام المباعة لسوريا ولبنان إلى 25 ألف جنيه. وبهذا تحولت القاهرة لعاصمة للسينما العربية وهو ما يفسر وفود أعداد كبيرة من الفنانى العرب للعمل فى القاهرة، فمن لبنان أتت لورد كاش، التى قدمت فيلم الموسيقار والمطرب غرام شيبا، الذى قدم فيلم الخطيئة ومن تونس جاءت المطربة حسيبة رشدى، التى قدمت فيلم حب وغيرهم كثير من مختلف البلدان العربية.

المشكلة تكمن فى أننا نقيم الأفلام بمعايير غير دقيقة دائما، فلا شك أن الخمسينيات والستينيات، كانت العصر الذهبى فى السينما المصرية، والأمر هنا ليس راجعا لقيام ثورة يوليو عام 1952، بقدر ما هو راجع لتطور أدوات الصناعة السينمائية ذاتها، التى كانت فى مصر فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات صناعة وليدة تقترب أدواتها من مرحلة التجريب، أكثر مما تقترب من مرحلة الابتكار والإبداع. ومن هنا نستطيع تفسير انبهارنا بالمنجز السينمائى للثورة.

على كل حال فإن قضية القومية العربية ليست القضية الوحيدة، التى تعمدت سينما ما بعد 52 أن تنسبها للثورة متجاهلة إرهاصاتها فى السنوات السابقة، فهناك أيضا قضايا عدة كالفساد السياسى الذى تم تناوله فى أكثر من فيلم فى باكورة إنتاج السينما المصرية، مما يؤكد على وعى السينمائيين الرواد بأهمية السينما كوسيلة فعالة للتعبير عن الواقع.

ولعل محمد بيومى الرائد الأول للسينما المصرية، الذى ولد فى 3 يناير عام 1884، كان رائدا فى هذا أيضا عندما أنجز فى عام 1923 فيلمه الوثائقى الأول، الذى صور فيه عودة سعد زغلول قائد ثورة 1919 من المنفى واستقباله بالقاهرة، ثم ناقش قضية البطالة فى فيلمه الكوميدى "برسوم يبحث عن وظيفة".

بل إن أول فيلم مصرى ناطق والذى حمل عنوان أولاد الذوات عام 1932 للمخرج محمد كريم، كان بدوره فيلما جادا يناقش قضية اجتماعية مهمة فى عصرها، متعلقة بسلوكيات أبناء الطبقة الارستقراطية وما يشوبه من استهتار بالقيم المجتمعية الراسخة.

ولا أعرف لماذا نتعامل بإهمال عندما نتناول التاريخ السينمائى مع المذبحة الرقابية، التى تعرض لها فيلم من فات قديمه عام 1943 للمخرج فريد الجندى والذى يعد أول فيلم يتطرق لقضايا الفساد السياسى فى مصر، عندما انتقد بشكل مباشر أداء رئيس الوزراء مصطفى النحاس وزوجته زينب الوكيل، وبسبب المحذوفات الرقابية تم عرض الفيلم مهلهلا فبدا بلا قصة أو مضمون، وتسبب فى انعزال وعزوف مخرجه. ومن قبله فى عام 1938 فيلم لا شين للمخرج فريتز كرامب، والذى تم منع عرضه لأنه حمل إسقاطا سياسيا، يدين الذات الملكية ويعادى نظام الحكم فى مصر.

وليس هذا فقط بل إن السينما المصرية منذ إنشائها، وقد بدا واضحا أنها تنحاز لقضايا الوطن الملحة، وأكثر من ذلك فإن تأثيرها أيضا كان واضحا تماما، هذا ما يثبته فيلم العامل للمخرج أحمد كامل مرسى عام 1943، الذى يعتبر أول فيلم يتعرض لمناقشة مشاكل العمال بشكل جدى عبر طرح مشروعية مطالبهم ومحاولاتهم الحصول عليها، أهمية الفيلم تأتى من أنه الأول فى السينما المصرية، الذى يقدم العمال على أنهم طبقة تسعى لحقوقها داخل المجتمع، وكذلك تزامنه مع حركة وعى عام فى هذا المجتمع أدت بضغطها على الحكومة المصرية لتغيير قوانين العمل الخاصة بهذه الطبقة.

لقد تجاهلت ثورة يوليو كل الحركات السياسية التى سبقتها، ونسيت مثلا فى دفاعها عن قضايا العمال والإجراء أنه فى الثلاثينيات من القرن الماضى وحتى بداية الأربعينيات شهدت مصر ذروة الحركة العمالية، التى يؤرخ لبدايتها بالعام 1899 عندما قام عمال لفافى السجائر بإضرابهم الأول. تلك الحركة التى تجلى انتصارها فى تشريع قانون عام 1940الذى كفل المزيد من الحقوق للعمال. تماما كما تجاهلت أنه لولا المعاهدة التى وقعها مصطفى النحاس عام 1936 ما استطاع الفلاحون وأبناء الطبقة الوسطى أن يلتحقوا بالكليات العسكرية فى وطنهم. والمفارقة أن هذا هو العام الذى التحق فيه جمال عبد الناصر نفسه بالكلية الحربية، ليقود فيما بعد حركة تستطيع تغيير نظام الحكم فى مصر. وهو الأمر الذى تجاهل فيلم مثل رد قلبى الإشارة إليه لا من بعيد أو من قريب. على الرغم من أن هذا الفيلم تحديدا أحد أوضح النماذج على الدعاية السينمائية لثورة يوليو.

لقد نسى الجميع أنه منذ العام 1924، حيث استطاع الوفد الوصول لتأليف وزارة شعبية وعلى مدار ثمانى سنوات متفرقة وهو يحقق منجزا ما فى التعليم، الأمر الذى تتوج عام 1950 بمجانية التعليم، حتى المرحلة الثانوية عندما تولى طه حسين وزارة المعارف فى ذات العام. وهو ما تشير له أفلام عديدة فى تاريخ السينما المصرية على رأسها فيلم المخرج كمال سليم العزيمة عام 1939، الذى دارت أحداثه حول كفاح أسرة فقيرة فى تربية وتعليم وحيدها، ثم سعى الابن فيما بعد للحصول على عمل يوازى تعليمه.

لقد سعت السينما بعد الثورة حتى عبر الأفلام الاجتماعية لتقديم صورة مغايرة للواقع المصرى، ربما لتبرر قيامها وتستحوذ على المزيد من التعاطف الشعبى معها، مؤكدة عدالة أفكارها، ولهذا كانت حتى عناوين الأفلام تحمل قدرا لا بأس به من الميلودرامية الفجة، مثل"ضحايا الإقطاع" إخراج مصطفى كمال البدرى عام 1957، وغيره من الأفلام. المؤسف أن هذا ربما ينتقص من الثورة أكثر مما يضيف لها، فاليوم وبعد مرور 56 عاما على قيامها، نستطيع إعادة قراءة التاريخ من جديد، لنكتشف أننا لم نكن بالحيادية التى تصورناها، لكن ورغم هذا فإن الشريط السينمائى ربما يكون قادرا على كشف ذلك، حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة