إسقاط سور مجرى العيون من قائمة المزارات المصرية

باريس .. 6 ملايين حاج لا يشوهون حرم "إيفل"

الجمعة، 04 يوليو 2008 10:17 م
باريس .. 6 ملايين حاج لا يشوهون حرم "إيفل" تصوير محمود البرغوثى
كتب محمود البرغوثى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كما أن الحج أشهر معدودات عند المسلمين، ثبت بالقطع أنه واجب أسبوعى لدى الأوروبيين، مع اختلاف المقام، والمعتقد، والمشاعر. الأوروبيون يعتقدون أنه "من مات دون زيارة باريس، فلا حياة له"، كما يعتقدون فى أنها جنتهم الدنيوية، لذا لا يدخرون طوال الأسبوع إلا ليسكبوا ما ادخروه على بوابات معالمها السياحية. أما المصريون مثلاً، فمنهم من يسكن أو يعمل فى شارع الهرم فى القاهرة، ولم يصعد الهضبة، ولم يمل عيناه بالصورة الطبيعية لشكل الحجارة الفرعونية التى بنيت منها أهراماتهم منذ سبعة آلاف عام.

المسلمون حول العالم تهفو قلوبهم صوب بيت الله الحرام سنوياً، (أكثر من ثلاثة ملايين حاج وخمسة ملايين معتمر)، يأتون من كل فج عميق، تتعلق قلوبهم بالبيت العتيق، أما الأوروبيون فيحجون أسبوعياً من جميع دول الاتحاد الأوروبى إلى "يورو ديزنى" فى باريس.

مليون زائر يومياً إلى باريس لا تزعجهم كتائب البقشيش، ولا يجدون من يدعو لهم بأن يعيشون كل سنة وهم طيبون، كما يحدث فى مصر، ولا ضير فى أن يجدوا بعض العرب من المغاربة راكعون على الأرصفة منكسى رؤوسهم أمام كوب بلاستيكى، يستقبل السنتات "الفكة" التى يتخلص منها السائحون فى هذه الأكواب تعاطفاً وتراحماً.

هذه المناظر وغيرها، تؤجج مشاعر الغيرة لدى كل عربى، خاصة إذا كان من المسلمين الذين يكثر ترددهم على المشاعر المقدسة سنوياً لأداء مناسك العمرة، وربما الحج أيضاً، ليقارن بين صورة المتسول العربى فى أوروبا وصورته أمام بيت الله الحرام، أو أمام عتباتنا السياحية، خاصة فى مصر، وأيضا أمام بوابات الدخول من الموانئ البرية والجوية المصرية، حيث لا يدخل سائح أو زائر مصر، دون أن ندعو له "كل سنة وأنت طيب يا بيه"، للدرجة التى أصبح بها هذا الدعاء "تيمة" للسخرية على المصريين.

يقول مدحت إسحاق إنه يقيم فى فرنسا منذ 18 عاماً، ويخشى العودة إلى مصر، بسبب ما يأتيه من أخبار مقبضة، مشيراً إلى أن الحكومة الفرنسية كانت منذ عشرات السنوات قد أصدرت تشريعات لاحترام المتسولين، بما لا يمنع حقهم فى التسول، ويحلم بأن يجد تشريعات فى مصر لتنظيم التاكسى الذى يسىء جداً للسياحة المصرية، حسب شكاوى معظم زبائنه.

وعلى صعيد المقارنة بين المتسولين فى بلادنا العربية، خاصة مصر، والمتسولين فى أوروبا، خاصة باريس، يقول ألكس سيندر – وهو من الزبائن الدائمين لمدحت إسحاق – أنه ينزعج جداً من العدد الهائل للمتسولين فى مصر، مؤكداً أن الأوروبى بطبيعته يتعاطف مع المتسول، شرط الالتزام بالنسق الحضارى، فلا إزعاج لزائر أو سائح، ولا استجداء، ولا هرولة، ولا "شحاتة" بالمناديل الورقية "المضروبة" وإكسسوارات السيارات المصنعة من القمامة، وهو ما يحدث فى مصر.

ويضيف مدحت، الذى يعمل سائقاً على تاكسى اشترى رخصته من أحد الفرنسيين، أو زبائنه من الفرنسيين يتألمون أثناء حديثهم عن رحلاتهم إلى مصر، خاصة كبار السن الذين سنحت لهم ظروفهم بزيارة مصر على فترات متباعدة، ويترحمون على ما وصلت إليه البلاد وأحوال العباد فيها.

تسعة ملايين سائح إلى مصر لا يشفون غليل صناع السياحة فيها، نصيب القاهرة منهم، نحو 5.3 مليون سائح، يرفعون معدل الجحيم المرورى فيها، ولا تترجم نتائجهم الاقتصادية إلا بما يساوى 0.9 مليار دولار، مع أن نقلهم عادة ما يكون بالأوتوبيسات الجماعية لشركات السياحة، لكن المليون ونصف المليون سائح الذين يزورون باريس أسبوعياً، ينعشون الاقتصاد الفرنسى بما قيمته 71.4 مليار دولار سنوياً.

الملايين الخمسة من السائحين الأجانب الذين يصعدون هضبة الأهرامات المصرية سنوياً، يعودون إلى بلادهم فرحين بما اختزنته الرقائق الإلكتروينة لكاميراتهم من صور لمعالم سياحية، استخدمت مرابطا للخيول وسدودا لحجز أكوام القمامة، مثلمايحدث لسور مجرى العيون فى مصر، الذى تم استبعاده من قوائم المعالم السياحية والتاريخية المصرية الأولى بالزيارة فى مصر، وذلك بعد أن ظن المصريون الحاليون أن قنصوة الغورى بناه كحاجز يفصل بين المدابغ والمدبح، وما هذه البوابات إلا لمرور عربات الكارو التى تحمل جلود الذبائح إلى المدابغ، أو نشر مخلفات المدابغ على عتباته.

يضيف أليكس سيندور أنه زار مصر كثيراً، وتعرف على الشخصية المصرية القديمة من خلال دراسته التاريخ الفرعونى، ويتعجب كيف اندثرت الحضارة الفرعونية تحت أقدام المصريين الجدد، الذين يلتقيهم فى باريس بأرواح مختلفة تماما، عن تلك التى تلازمهم فى بلادهم.

ويترجم مدحت إسحاق رأى صديقه، لما غيبته روح اللغة الفرنسية من تعبيرات مقصودة، حيث يرى أن العرب يأتون إلى أوروبا كأنهم مبرمجون على احترام القوانين، مما يعنى أنهم ينجحون فى تطبيق الإملاءات إذا كان ذلك مربوطا بالخوف من الجزاءات أو الغرامات، التى تفرضها أنظمة الدول الأوروبية، أما فى بلدانهم فتجد الهمجية فى التعامل مع الممتلكات العامة، خاصة الآثار والمعالم التاريخية العظيمة.

وإذا كان الملايين الذين يحجون إلى باريس أسبوعياً، لا يحملون فى أذهانهم سوى صورة خيالية شاعرية للمتاحف والمزارات العديدة، فإن الملايين الخمسة الذين يدخلون مصر سنوياً، يمكن مضاعفتهم عشرة أضعاف، إذا استوعب المصريون قيمة ما تحتضنه بلاد النيل من حضارات عظيمة مرت بها، والحديث لأليكس سيندر.

قلت لأليكس إن المقارنة ظالمة، فزائر باريس تغلب عليه الصفة التجارية أيضاً، كونه يضع فى مخيلته ما سينقله فى حقيبته من عطور جيرلان وإيف سان لوران، وجلديات لويس فيتون، وهى بضائع يفرغ لها السائح جيوبه وبطاقاته الائتمانية فى متاجرها، لتجنى فرنسا نحو 71.4 مليار دولار سنوياً من السياحة المرتبطة بالتجارة.

يعرف أليكس المشاعر المقدسة الإسلامية فى مصر، مثل مسجد الحسين، ومسجد السيدة زينب، ومسجد السيد البدوى فى طنطا، ويتعجب من زوار هذه المقدسات، حيث يلقون مخلفاتهم فى الأرض، ويهول الأمر ـ حسب ترجمة مدحت إسحاق (قمامة تتناثر فى كل شبر من الأرض، وروائح تزكم الأنوف، وأمراض تنتقل بالعدوى من زائر إلى آخر عبر الأنفاس التى تزفرها الصدور العامرة بالإيمان، مع كل تكبيرة ودعاء.

فى الجهة المقابلة فى باريس داخل كنيسة نوتردام والسكيليكير، تتضارب الصور بأزياء ومستحضرات تجميل يهديها مسرح الشانزلزيه العام، لعارضات من كل بقاع أوروبا، يعرضون فتاوى الجمال التى تتفتق بها أذهان إيف سان لوران وماكس مارا، وجان فرانكو فيرى، وسلفادورى فيرجامو، وفالنتينو. فى زحام ملايين باريس، لا مجال للروائح الكريهة، حيث تختلط عطور جيرلان، وبوشيرون، وإيف سان لوران، وغيرهم ممن صاغوا أحاديث النظافة فى قاموس الأوروبيين.

الصورة المقابلة فى أراضينا المقدسة، تجعلنى أتذكر تلك اللحظات، التى يعيشها الحاج والمعتمر من مشاعر الاشمئزاز ومغالبة التدافع البشرى غير المبرر، وأكوام النفايات التى يلقى بها المسلمون فى قارعة طريقهم وتحت أقدامهم، على الرغم من أن ديننا الحنيف يؤكد أن "النظافة من الإيمان".

وواقع الحال يؤكد أنه لولا جهود الآليات السعودية فى رفع المخلفات ثانية بثانية، لدفن ملايين الحجاج فى جبال مخلفاتهم. ولولا الإمكانات الهائلة التى توفرها المملكة لإزالة أطنان من النفايات يومياً، لما وجد المعتمرون أو الحجاج موطئ قدم نظيف، ولذا قد تميل كفة ميزان موسم الحج والعمرة السعودى تجاه الخسارة، حيث تنفق الدولة على ضيوف الرحمن والمعتمرين، ومرافق المشاعر المقدسة، أضعاف ما تدخله السياحة الدينية للميزانية السعودية (15 مليار ريال).

أما الأوراق الخضراء ـ فئة اليورو ـ التى يدفعها السائح تحت الأقدام الأربعة لـ "إيفل" وأمام الهرم الزجاجى لمتحف اللوفر، وعلى بوابة معالم باريس السياحية، كفيلة بجمع حصيلة قوامها 71.4 مليار دولار سنوياً، لأن عدد زوار البرج سنوياً يفوق ستة ملايين سائح كل عام، مقابل 32 مليون سائح لـ "الوفر" و300 متحف أخرى موجودة فى فرنسا كلها.

تعمل فرنسا سنوياً على زيادة دخلها القومى من السياحة، كونها تعرف جيداً أن صناعة السياحة ستزيح صناعة النفط فى العالم خلال نهاية هذا القرن ـوفقاً لتقديرات عالمية. أما مصر فتطلق اجتهاداتها فى مجال الترويج السياحى كطلقات "فشنك"، لا تصيب هدفاً، ولا تترجم فعلياً فى أرقام.

تقول طالبة فرنسية تدرس التاريخ الفرعونى فى مصر، إنها تحزن لأحوال السياحة فى مصر، مؤكدة أن وزارة السياحة المصرية فى حاجة إلى تنظيم دورات لسائقى التاكسى المصريين، لتعليمهم احترام قواعد المرور، وتبالغ فى الأمر بوضع اشتراطات لامتلاك رخصة التاكسى، منها إجادة اللغة الإنجليزية، لتسهيل مهمة إرشاد السائح، أو توصيله بسرعة وآمان إلى الموقع المستهدف.

وتتذكر السائحة زيارتها الأولى لمصر، حيث ظل سائق التاكسى يدور بها فى ميدان التحرير أكثر من ساعتين، كى يوصلها إلى متحف القاهرة، لأنه لم يكن يعرف ما تعنيه كلمة museum، إلى أن أنقذها شاب مصرى لاحظ حيرتها وبكاءها، فأخبر السائح بإشارة من إصبعه إلى متحف القاهرة.

ومما يلفت النظر فى باريس، أن الملايين التى تدخلها سنوياً من جميع بلدان أوروبا والعرب، لا يكلفونها كثيراً فى مسائل النظافة والأمن، حيث يحل القانون محل الاستنفار الأمنى البشرى المعمول به فى كل دول العالم لمواجهة التواجد الأجنبى الكثيف، مثلما يحدث خلال موسمى الحج والعمرة فى السعودية، أو مثلما يحدث فى مصر صيفاً، لتجد الميادين مزينة بأصحاب البدل البيضاء، لكن فى أوروبا فلا مجال لرؤية رجل أمن إلا إذا تم استدعاؤه من هاتف الطوارئ لأمر ما.

من المقارنة المتوازية للكثير من الجوانب بين فرنسا قبلة السياحة الأوروبية، والمملكة العربية السعودية قبلة السياحة الدينية للمسلمين، لا يخطئ التحليل نتيجة حتمية يسجلها العنصر المشترك المتمثل فى السائح نفسه.

المعتمر فى مكة المكرمة لا يحتكم بالقاعدة الفقهية المأخوذة من الدين الحنيف، والتى تؤكد على أن "النظافة من الإيمان"، حيث تزيد نفايات المعتمر عن طاقة أى جهاز يعنى بالحفاظ على الصورة المشرفة الحالية للمشاعر، وهذا المعتمر نفسه لو زار باريس يتفانى فى الاجتهاد، الذى يبلغ به درجة التحضر، كى يثبت لنفسه أنه راق ويحترم أنظمة الأوروبيين وثقافاتهم.

نهاية، تزدحم الصور المتناقضة بين ما تلتقطه الكاميرا من أكوام نفايات فى شوارع مصر، و ما ينبغى أن تسجله فى باريس من آيات النظافة والجمال، سواء فى البشر، أو الشوارع، أو لمتاجر، أو واجهات المبانى، وحتى جذوع الشجر التى تقف كعساكر فى طابور الصباح الميرى للجيش الإنجليزى.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة