د.طارق النجومى يكتب: محاربة طواحين الهواء

الإثنين، 01 نوفمبر 2010 07:23 م
د.طارق النجومى يكتب: محاربة طواحين الهواء صورة ارشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أخذ يرشف كوب الشاى ببطء وهو يقرأ الجريدة ويشعر بالملل.. تنبه على صوت زوجته.. أنت ماوراكش إلا أنك تنكد على الواد اللى حليتنا اللى طلعنا بيه من الدنيا..!!إيه يعنى طلب منك ألفين جنيه علشان يطلع رحلة مع أصحابه..!! ألفين جنيه أيه اللى ياخدهم علشان رحلة..!!؟ أنتم مش حاسين بجيبلكوا الفلوس دى أزاى..!!؟

أنت ماعندكش إلا الكلمتين دول..!! أنت مش عايش فى الدنيا..!! شوف أصحابه عايشين ازاى.. أبنك أقل واحد فيهم..!!

قبل أن يرد دخل عليهم ابنهم وهو يتحاشى النظر لوالده.. أنا نازل يا مامى.. عن أذنك يا بابى.. قال لنفسه.. بابى ومامى.. هو ده اللى فالح فيه..!! أمتى هيبقى راجل..!! نظر إليه و إلى الانسيال الذى يحيط بساعده وقميصه المفتوح حتى منتصف صدره والسلسلة تتدلى من رقبته..!!

هز رأسه بيأس.. حاول منذ زمن بعيد أن يسيطر على سلوك ابنه.. كان كمثل الذى يحارب طواحين الهواء..!!
قامت زوجته وهى تقول.. اعمل حسابك على المبلغ.. هتدفعه يعنى هتدفعه.. أنا مش مستعده أقهر الولد وأكسر نفسه قدام أصحابه..!!

اليوم الوحيد اللى بقعد فيه فى البيت بدل ما أستريح النكد ورايا ورايا..!! طوى الجريده.. قام وتمدد على سريره.. أستيقظ على يد زوجته تهزه وصوتها كالصراخ.. قوم بسرعه شوف مين عايزك على التليفون..؟؟

قام مفزوعاً.. ألو.. أيوه مين..؟؟ مستشفى..!! أيوه خير..!!؟ أيوه.. حازم أبنى..!! فيه أيه..؟؟ حالته أيه بالظبط..؟؟ أيوه.. جايين حالا..!!؟

صرخت زوجته حازم ماله.!!؟ ماعرفش..!! فى المستشفى..!! انهارت وهى تصيح وتبكى.. لا يتذكر كيف ارتديا ملابسهما ولا كيف وصلا للمستشفى..!! دخلا قسم الطوارئ.

تفاجأ بماجد صديق ابنه واقفاً وهو يبدو مذهولاً خائفاً.. وجد طبيباً يخرج مسرعاً.. أيوه يا دكتور ابنى حازم ماله.. نظر إليه بعيون جامدة.. ابنك يا أستاذ واخد جرعه زايده و حالته خطيره.. جرعة أيه..!!؟ جرعة مخدرات.. قالها وهو يخطو مسرعا بعيدا عنه.

وقف مذهولا.. نظر لصديق ابنه بعيون تكاد أن تمزقه.. مخدرات..!! بصوت كالبكاء والله ياعمو دى أول مره.. رحنا لصاحبنا رامى فى الفيلا بتاعتهم.. كان بيشرب وعزم علينا.. أنا مارضيتشى.. حازم قال أنا عايز أجرب.. قلت له بلاش.. ماسمعش كلامى.. وفجأه أغمى عليه.. أنا ماليش ذنب ياعمو.

تذكر كم مرة حذر زوجته من صديق ابنه رامى هذا..!! كانت ترد.. هو كل ماتلاقى ابنك مصاحب ولاد ناس كبار تجيلك حساسية..!! أمال عايزه يصاحب مين.. ولاد الشحاتين..!!؟
لحظات و شاهد الممرضات والأطباء يخرجون من الغرفه.. فيه أيه..؟؟ الولد جراله حاجه..؟؟ قال له أحدهم وهو يتحاشى النظر إليه.. البقاء لله.

صرخت زوجته..انفجرت فى بكاءٍ ملأت أصداؤه أرجاء المكان.. بعض الممرضات تجمعن حولها يحاولن التخفيف عنها.. أصابته حالة من الذهول..!!

حاول الصراخ فلم يستطع.. أرتدت صرخته صامتةً لداخل صدره.. تفتت لألاف الصرخات فأصبحت كخناجر تمزق أحشاءه.

بدأت الدموع تنساب من عينيه.. كانت زوجته تجلس بعيدا عنه وهى تنتحب و تبكى بكاءاً مراً.. تلاشت الرؤية أمامه.. رجع برأسه للوراء وأحدى يديه على جبهته.

وجد يداً تمتد تمسح دموعه.. شعر للحظة بالراحة فهناك من يواسيه.. أنه فى أمس الحاجة لمن يكون بجانبه يلملم نفسه الممزقة.

فتح عينيه ليرى لمن تكون تلك اليد.. وجد أنها يده الأخرى هى التى أمتدت إليه..!! زاغ بصره.. ومن بين بقايا دموعه شاهد خيالاً يقترب منه..؟؟

مسح عينيه ليرى.. وجدها زوجته.. جلست بجانبه.. خيل إليه أنها سترتمى فى صدره.. أراد أن يحتضنها.. تنبه.. وجد الحزن والأسى الذى كان يرتسم على وجهها و نظرة عينيها المنكسرة قد تحولت لنظرةٍ جامدةٍ قاسيةٍ..!! كل علامات الجدية كانت ترتسم على وجهها..!!؟

بادرته.. أنا هروح أقعد عند أهلى.. خلاص الحاجه اللى كانت بتربطنى بيك أنتهت..!! كل واحد لازم يروح لحاله..!!

أنتى بتقولى أيه..!!؟ بعد عشرة خمسه وعشرين سنه بتقولى الكلام ده..!! عشرة أيه..!! أنت مش حاسس بنفسك..!! أنا مشفتش معاك يوم واحد عدل..!! اللى كانت مصبرنى على العيشه معاك راح..!!

يعنى مسمعتش منك الكلام ده قبل كده..!! الكلام ماكانش منه فايده..!! أنا عمرى ماقصرت معاكم فى حاجه..!!؟ ماقصرتش..!! هو أحنا كنا بنشوفك أنا ولا الولد..!! أخرة بعدك عننا الولد راح.. أنفجرت فى البكاء مرة أخرى.

قال لنفسه ما الخطأ الذى ارتكبته..؟؟ رفضت العمل بأحد البلاد العربية وفضلت البقاء بجانبهم.. بذلت غاية جهدى..عملت عملاً أخراً بجانب عملى.. كنت أعتبر نفسى مثالاً للتضحية..!!

كان يفضل ابنه وزوجته عندما يفكر أن يشترى شيئاً لنفسه.. نعم.... كان يعلم أنه لأسرته كظل الحائط.. فهو غائب عنهم معظم الوقت.

علاقته مع زوجته أصابها الفتور مع مرور السنوات وتغير حاله وحالها.. كانت لاتهتم بمظهرها إلا عندما تريد الخروج أو لو كانت ذاهبة لمناسبة تحضرها.. يعود مجهداً متعباً.. يجدها كالعادة أمام التلفاز.. تضع له وجبة العشاء.. ثم تعود بسرعة لتجلس لتتابع ماكانت تشاهده.

أحس برأسه تكاد أن تنفجر.. أصبحت الرؤية ضبابية أمام عينيه.. وجد زوجته تقوم وتغادر المكان.. كان هذا آخر شيئا رأه.

استيقظ.. سمع ممرضة تقول إلحق يا دكتور بهاء.. سرير خمسه أبتدى يفوق.. أسرع إليه.. حقنوه بشيءٍ.. غاب عن الوعى مرة أخرى .

فتح عينيه وجد أخته تجلس بجانب سريره فى منزله.. حمد لله على سلامتك.. ربنا كبير.. وجده يستعيد شريط حياته.. ماذا كنت أستطيع أن أفعل..؟؟ أنه قدرى.. كنت أعتقد أننى فقدت أبنى فقط ولكننى فقدت كل شئ.. لقد انتهى كل شىء.. لقد انتهيت.

نظر لشباك غرفته.. شاهد عصفوراً واقفاً يغرد وينظر إليه.. سمع صوتا هامسا يتردد داخله لأغنية طالما كان يعشقها!!

ساعات أقوم الصبح قلبى حزين.. أطل بره الباب ياخدنى الحنين.. اللى لقيته ضاع.. واللى اشتريته أنباع.. واللى قابلته راح.. وفات الأنين.. وأرجع وأقول.. لسه الطيور بتفن.. والنحلايات بتطن.. والطفل ضحكه يرن.. مع أن.. مش كل البشر فرحانين.

أغمض عينيه..أخذ يردد الكلمات.. استرسل وهو يتذكر باقى كلماتها.. أدى اللى كان.. وأدى القدر.. وأدى المصير.. نودع الماضى وحلمه الكبير.. نودع الأفراح.. نودع الأشباح.. راح اللى راح... ماعدش فاضل كتير..!!

شعر بطمأنينة وراحة تتسرب إلى نفسه.. شعر بأنه خفيف كالريشة.. دخلت عليه أخته.. نظرت إليه.. اتسعت عيناها وسقط الكوب من يدها.

كان العصفور مازال على الشباك يغرد.. وجد هواء ينطلق من الغرفة فأطاره..!! و لدهشته وجد رفيقا يطير معه وهو يغرد ويرفف بجناحيه منطلقاً لأعلى وهو يعلو ويعلو..!!

كان يبدو سعيداً.. فلأول مرة منذ مولده يحس بأنه حر طليق وبأن آلامه ذهبت بعيداً.. وإلى الأبد..!!









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة